كتب

تاريخ المرأة في الشرق العربي.. زنوبيا نموذجا (3من3)

هناك روايات تقول إن زنوبيا قضت بقية أيامها في دار قدمت لها في منطقة "تيبور"- الهيئة العامة للكتاب

الكتاب: "تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم"
الكاتب: د. عيد مرعي
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2020

 

عدد الصفحات: 350 صفحة من القطع الكبير.

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثالث والأخير من عرضه لكتاب "تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم"، للكاتب السوري الدكتور عيد مرعي، عرض صورة المرأة في المشرق العربي كما سجلها التاريخ.

الصدام بين زنوبيا والإمبراطورية الرومانية

مع تعاظم قوة تدمر السياسية والعسكرية والاقتصادية فقد قررت الإمبراطورية الرومانية بقيادة إمبراطورها الجديد وضع حد لحلم الزباء في تدمر، فأصبح الصدام حتمياً بين الجيش التدمري والجيش الروماني. ففي العام 271م أرسل "أورليانوس" جيشاً إلى مصر أخضعها من جديد للسيطرة الرومانية بعد أن ألحق هزيمة بالجيش التدمري الموجود هناك. وقدم هو في العام التالي (272م) على رأس جيشٍ إلى الشرق لإخضاع تدمر والقضاء على زنوبيا. وبعد أن عبر مضيق البوسفور قضى على الحاميات التدمرية الموجودة في آسيا الصغرى، ثم تقدم نحو أنطاكيا، المدينة الرئيسة في سوريا آنذاك يساعده في ذلك أسطول كبير. وترافق ذلك مع إشاعة الرومان لنبوءة إلهية عن قرب سقوط تدمر بيدهم، الأمر الذي جعل اليأس يتسرب إلى نفوس العساكر التدمريين. بالطبع كان هذا نوعاً من الحرب النفسية التي استخدمها الرومان على نطاقٍ واسع.

لمواجهة هذا الوضع الحرج خرجت "زنوبيا" إلى أنطاكيا لرفع معنويات عساكر تدمر. وقد نجحت في إعادة الثقة إلى جيشها، وتحقيق نصرٍ على الجيش الروماني في بداية المعركة التي نشبت بين الطرفين. إلا أن "أورليانوس" الذي تراجع بقواته سرعان ما باغت الجيش التدمري بهجومٍ معاكس حقق فيه انتصاراً كبيراً، الأمر الذي أجبر "زنوبيا" على سحب جيشها من أنطاكيا، لا بسبب الهزيمة فقط، بل لأن الكثيرين من سكان أنطاكيا كانوا يؤيدون الرومان.

انسحبت "زنوبيا" بجيشها إلى حمص، إذ أخذت تعد العدة من جديد لمواجهة الجيش الروماني وعلى رأسه الإمبراطور "أورليانوس"، وتمكنت من حشد جيش قوامه سبعين ألف مقاتل. وهنا في حمص تكرر ما جرى في أنطاكيا، وذلك بسبب تفوق الرومان في سلاحي المشاة والفرسان. عندئذٍ أدركت زنوبيا أن لا مناص لها من العودة إلى تدمر للاحتماء بأسوارها وتحصيناتها القوية. دخل "أورليانوس" مدينة حمص، وزار معبد إله الشمس المشهور فيها، وقدم القرابين له، وتعهد بتوسعته وتجميله، وذلك لكسب رضا السكان المحليين.

 

"من زنوبيا ملكة الشرق إلى أورليان أوغست (لقبه الإمبراطوري) إنك تشترط الاستسلام، ولم تعرف أن كليوباترا فضلت الانتحار على أن تعيش غير حياة الملوك والعز، ولم يتجرأ أحد أن يطلب مني ما طلبت. إن كل ما يتحقق بالحرب، يجب أن يتم بقيم الحرب وحدها، وإن الأرجوان (لباس الملوك) لدينا هو خير الأكفان."

 



يقول الكاتب عيد مرعي: "ضرب أورليانوس حصاراً شديداً على تدمر، ودافعت زنوبيا عن مدينتها بقوة، ورفضت عروض الاستسلام والخضوع التي عرضها أورليانوس عليها، وتذكر منها:
 
"من أورليانوس إمبراطور روما إلى الملكة زنوبيا، إنني أدعوك للاستسلام، وأعدك بأن أحافظ على حياتك وحياة أسرتك بشرط أن تقيمي معهم في مكانٍ أحدده أنا ومجلس شيوخ روما الموقر.."، وكان جواب "زنوبيا" برفض هذا العرض، إذ قالت: "من زنوبيا ملكة الشرق إلى أورليان أوغست (لقبه الإمبراطوري) إنك تشترط الاستسلام، ولم تعرف أن كليوباترا فضلت الانتحار على أن تعيش غير حياة الملوك والعز، ولم يتجرأ أحد أن يطلب مني ما طلبت. إن كل ما يتحقق بالحرب، يجب أن يتم بقيم الحرب وحدها، وإن الأرجوان (لباس الملوك) لدينا هو خير الأكفان."(ص110 من الكتاب).

وبعد أن طالت مدة الحصار، ويئست زنوبيا من الحصول على مساعدات من الإمبراطورية الفارسية الساسانية بسبب مشاكل واضطرابات داخلية (وفاة شابور وعزل ابنه هرمز بعد حكم عامٍ واحد 272 ـ 273م)، ومن القبائل العربية الحليفة لها التي كانت تقيم في بادية الشام، غادرت تدمر خلسة تحت جنح الظلام على ظهر أحد الهجن السريعة متوجهة نحو الشرق قاصدة حصنها "زنوبيا" الواقع على شاطئ الفرات، علها تصل من هناك إلى فارس وتنجح في الحصول على مساعدات من هناك. إلا أن الرومان أدركوها وهي في الطريق، وألقوا القبض عليها وهي تحاول عبور نهر الفرات. كان ذلك في العام 273م. خاطب "أورليانوس" الرومان عندما سخروا منه أنَّه يحارب امرأة قائلاً: "ليتكم تعرفون أيَّ امرأة أقاتل، ليت كل الرجال بشجاعة وإقدام زنوبيا، وماذا سيقول التاريخ عني إذا غلبتني هذه المرأة.. إنَّها عدوةٌ لنا ولديها جيش قوي مستعد للقتال، ولا يوجد مقطع من سور تدمر إلا ويحوي آلات حربية قادرة على أن ترمينا بالنار والسهام وكل أنواع القذائف". 

 

استسلام تدمر ونهاية زنوبيا


استسلمت تدمر بعد أسر ملكتها زنوبيا، ودخلها الإمبراطور الروماني أورليانوس، وفرض على سكانها غرامات كبيرة، وعيّن عليها حامياً رومانياً تسانده حامية عسكرية رومانية مؤلفة من ستمئة قوّاس.

غادر أورليانوس تدمر مصطحباً معه "زنوبيا" أسيرةً، وفي حمص أعدم أعز أصدقائها، وفي مقدمتهم الفيلسوف "لونجينوس" وما إن وصل إلى "تراقيا"، وهو في طريقه إلى روما، في أواخر العام 273م، حتى وصلته أخبار ثورة تدمر على الحامية الرومانية والقضاء عليها، الأمر الذي اضطره إلى العودة إلى تدمر، حيث قضى على ثورتها وأعمل فيها سيف القتل والنهب والتخريب. 

يقول الكاتب عيد مرعي: "وتتحدث رسالة كتبها "باسوس" قائد جيش أورليانوس الذي أخمد ثورة تدمر عن القتل والتدمير الذي لحق بالمدينة إذ تقول: "لقد قتلنا الرجال والنساء والأطفال، وهدمنا البيوت فوق رؤوس أصحابها، فلمن نترك هذه المدينة أيها افمبراطور... فأجابه الإمبراطور أرفع سيفك عن التدمريين وسوف أرسل بعض الأموال لإعادة بناء ما تهدم من هيكل الشمس (معبد بل). أما "زنوبيا" فقد دخلت روما في العام 274 م، وهي مقيدة بسلاسل ذهبية لتزين موكب نصر "أورليانوس" وهناك روايات تقول أنها قضت بقية أيامها في دار قدمت لها في منطقة "تيبور" (التيفولي حالياً) (ص 112 من الكتاب).
 
تعتبر الدولة التدمرية أكثر دول الشرق القديم تنظيماً وتقدماً، إذ إن مؤسسات هذه الدولة تتكون من مجلس الشيوخ، الذي يضم أعضاء من كبار التجار، ورجال المال، ورؤساء القوافل والوجهاء، وله رئيس وأمين سر، ومن مجلس الشعب الذي يضم أفراد القبائل البالغين. وتنامي نفوذ مجلس الشعب، بحكم الثراء الفاحش للطبقة التجارية التدمرية المتنفذة على صعيد الحكم، فضلاً عن أن الارستقراطية الحاكمة قد ركزت السلطات المدنية والعسكرية لمصلحة هذه الطبقة، مقلصة بذلك سلطات المجالس الشعبية. كما أن القانون المالي التدمري يؤكد لنا مدى تطور هذا المجتمع المديني، وبخاصة في جانب الجهاز الاداري للدولة، وكذلك في جوانب الأوضاع الاقتصادية والمالية والادارية والسياسية للدولة التدمرية، دولة مدينة القوافل...

 

إقرأ أيضا: تاريخ المرأة في الشرق العربي.. زنوبيا نموذجا (1من3)

 

إقرأ أيضا: تاريخ المرأة في الشرق العربي.. زنوبيا نموذجا (2من3)