قضايا وآراء

ماكرون ومقاطعة المنتجات الفرنسية

1300x600
خرج علينا ماكرون في حواره مع قناة الجزيرة لغسل ما اقترفت يداه تجاه حبينا رسول الله الرحمة المهداة للعالمين، مدعيا أن تصريحاته حرفت وفُهم منها خطَأً أنه مؤيد للرسوم الساخرة من النبي، وأن هذا الرسوم لا صلة للحكومة بها، وإنها خاصة بصحيفة غير حكومية.. وهذا عذر أقبح من ذنب، كما أن ماكرون نسي أو تناسى أنه من تبنى عرض هذه الرسوم على واجهة المباني الحكومية.

وتأتي تصريحات ماكرون هذه ومن قبلها مطالبة وزارة الخارجية الفرنسية الدول الإسلامية بعدم مقاطعة المنتجات الفرنسية، لتثبت أن المقاطعة التي بدأت من دولة الكويت وانتشرت إلى ربوع العالم الإسلامي؛ موجعة ومؤثرة. كما تكشف تلك التصريحات عن تعرية المنبطحين من بني جلدتنا الذين لا صوت لهم إلا تسفيه المقاطعة.

إن سلاح المقاطعة الاقتصادية للسلع والخدمات الفرنسية يمثل أضعف الإيمان والحد الأدنى المطلوب من الشعوب المسلمة لنصرة الرسول، وهو في حقيقته سلاح فعَّال ومهم. كما أن المقاطعة الاقتصادية ليست بدعا، فقد عرفها وطبقها المشركون في مكة على بني هاشم وبني المطلب، وطبق ثُمامة بن أثال الحنفي سيد قومه؛ على مشركي مكة بعد إسلامه، وطبقها الزعيم الهندي غاندي والشعب الهندي على المنتجات البريطانية، حتى سحبت بريطانيا آخر جنودها من الهند سنة 1947م. كما قاطعت مصر المنتجات البريطانية بعد أحداث ثورة 1919م، وعقب معاهدة 1936م حتى تم إلغاؤها عام 1951م. وفي حرب أكتوبر 1973م حققت المقاطعة الاقتصادية العربية من خلال سلاح البترول نصرا فريدا، كما طبقت أمريكا سلاح المقاطعة وما زالت تطبقه، وإن استخدمته بشكل مقلوب ووحشي من خلال حصارها للدول والشعوب غير الموالية لها، من كوبا إلى إيران وكوريا الشمالية، وجعلت فكاك الحصار الاقتصادي للسودان بالتطبيع المخزي مع الكيان الصهيوني. كما أن الكيان الصهيوني طبق المقاطعة مرارا وليس آخرها حصاره القائم لغزة. بل في أيامنا هذه ما زلنا نجد فرنسا نفسها تقاطع ليل نهار البضائع الأمريكية، والأفلام الأمريكية، والوجبات الأمريكية، واللغة الإنجليزية.

لذا فإن الذين يرددون بأنه لا جدوى من المقاطعة الاقتصادية للسلع والخدمات الفرنسية، سواء بحسن نية أو بسوء، نية لتفتيت عضد الداعين للمقاطعة، وكسر إرادتهم، وإطفاء حماسهم.. ينبغي أن يعلموا أن كلامهم لا وزن ولا قيمة له، فما لا يدرك كله لا يترك جله. والدراسة العلمية المتأنية لجدوى المقاطعة الاقتصادية فضلا عن البعد الشرعي تبين أن هذه المقاطعة للسلع والخدمات الفرنسية فريضة شرعية وضرورة اقتصادية من الناحيتين المادية والمعنوية.

فمن الناحية المادية، فإن المقاطعة الاقتصادية نكاية وعامل ضغط على ماكرون وحكومته، حيث إن فرنسا دولة تحركها المصالح، والمطلع على آليات العمل السياسي فيها يجد أنها لا يحكمها السياسيون بقدر ما يحكمها رجال المال والأعمال، وكذلك كان وصول ماكرون نفسة للرئاسة. فالسياسيون واجهة الشركات الكبرى، والإضرار بمصالح هذه الشركات وأرباحها هو إضرار مباشر باللاعبين الحقيقيين خلف الستار القادرين على تحويل مسار السياسة الفرنسية بالفعل لا بالقول، وهو ضرب على العصب الحساس العاري، حيث إن مقاطعة السلع والخدمات الفرنسية تسهم في كساد المنتجات وتكدسها في مستودعات الشركات، ومن ثم انخفاض دخل تلك الشركات، واضطرارها إلى تسريح الآلاف من العمال، وبالتالي انتشار مزيد من البطالة لا سيما في ظل أزمة كورونا، وقد يصل في نهاية المطاف الأمر بماكرون وحكومته إلى تغيير سياستهما وفقا المصالح المادية في بلد النفوذ فيه لرأس المال، وعدم المساس بنبينا مرة أخرى، لا سيما وأن الصادرات الفرنسية للدول الإسلامية بلغت في العام 2019م مبلغ 45 مليار دولار، إضافة إلى خدمات المصارف وشركات التأمين والوكلاء التجاريين وخدمات النقل والتعليم والصحة.

والاقتصاد الفرنسي في أمسّ الحاجة إلى عدم التعرض لاهتزازات في ظل بيانات رسمية عن العام 2020 تعكس انكماشا اقتصاديا إجماليا متوقعا بنسبة 9.0 في المئة للعام بأكمله، ومعدل نمو سنوي للناتج المحلي -18.9 في المئة، وعجزا متوقعا 220 مليار يورو، بنسبة 11.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة لأكثر من 52 مليارا للضمان الاجتماعي، وبلوغ نسبة الدين الحكومي للناتج المحلي الإجمالي 98.1 في المئة، بارتفاع عن المتوقع بنسبة 115 في المئة، ووصول معدل البطالة إلى 7.1 في المئة، وعجز الميزان التجاري إلى 7.7 مليار يورو.

كما أن نجاح حملات المقاطعة على المنتجات الفرنسية تحمل معها الخير الكثير للاقتصاديات العربية والإسلامية، لما ينتج عن ذلك من ازدياد في الطلب على منتجات الشركات المحلية والعربية والإسلامية، وما يترتب على ذلك من انخفاض في الواردات، وازدياد في الصادرات العربية والإسلامية البينيّة، وبالتالي ازدياد المدّخرات المحلية والعربية والإسلامية، وانخفاض العجز في الميزان التجاري، فضلا عن زيادة فرص الاستثمار.

وقد يرى البعض أن المقاطعة تضر بأصحاب المنتجات الفرنسية محليا وتسهم في تسريح العمالة، وهذا ليس حقيقة، فنتاج ذلك إحلال منتجات بديلة لها إنتاجا وتوزيعا وتوفير فرص عمل بديلة. كما يجب أن يكون لنا عبرة في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 28)، حيث رأى بعض مسلمي مكة الذين يعيشون على التجارة في موسم الحج أن منع المشركين من الحج إلى بيت الله الحرام سوف يؤدي إلى كساد تجارتهم وانهيارها، وجاء الوعد من الله ليريح بالهم ويبيّن لهم أن أمر الرزق بيد الله تعالى، وإن كانوا يخافون الفقر فسوف يغنيهم الرزاق من فضله.

أما من الناحية المعنوية، فالمقاطعة الاقتصادية ترسيخ لقيمة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والغيرة والتضحية من أجله. فأصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، كما يقول ابن القيم. وهذا أقل القليل تجاه نبينا الذي هو أحب إلينا من أنفسنا، والذي ما وُجد يوما من الأيام إلا حريصا على أمته بالمؤمنين رؤوف رحيم.. "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" (التوبة: 128). وقد اهتم بأصحابه كما اهتم بأتباعه، وهو الذي ادخر شفاعته لأمته، ولا قول له يوم يعرض الناس على رب العالمين سوى: "يارب أمتي أمتي".. فماذا نقول له صلى الله عليه وسلم يوم النظر في وجهه الكريم؟!..

فلا يغفلن جفن لنا.. ولنتحرك بإيجابية لنصرة نبينا حبيبنا، موقنين بأن نجاج المقاطعة يتطلب إخلاص النية، والتخطيط والتنسيق المؤسسي الشعبي المنظم والهادف، واتباع سياسة النفس الطويل (الاستمرارية)، ولنمارس ذلك عمليا سلوكا اقتصاديا في مأكلنا وفي مشربنا وفي ملبسنا، وفي ما نقرأ وفي ما نشاهد ونسمع، ويصبح شيئا مألوفا ولازما من لوازم حياتنا اليومية، تزول معه من يومياتنا الأسماء والأشياء التي يفرزها ماكرون وعصابته الذي يتلاعب ويتجاوز باسم حرية الرأي المزعومة، وليكن شعارنا جميعا "قاطعوهم ما استطعتم إلى ذلك سبيلا"، حتى يعتذر ماكرون أو يجعله شعبه عبرة ويلقي به خارج قصر الإليزيه.

twitter.com/drdawaba