قضايا وآراء

إنها أزمة فرنسا

1300x600
لم تتخل فرنسا الاستعمارية، ولا فرنسا اللائكية "العَلمانية الفرنسية"، عن "صليبيتها" في يوم من الأيام، فهي كانت شريكة ومبادرة في الحملات الصليبية، وعندما أصبحت جمهورية لم تتوقف حروبها المغلفة بالكذب والتدليس عن مهاجمة الإسلام والمسلمين. ولذلك فإن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عندما احتل مصر، قال للمصريين إنه جاء لتحريرهم من تخلف وهيمنة المماليك الذين خانوا الإسلام الصحيح، واليوم ها هو الرئيس الفرنسي ماكرون يقول إن الإسلام بحاجة إلى إعادة هيكلة وإنه يعيش أزمة.

ويبدو أن الفرنسيين بقدر ما أنهم عنجهيون ومتعالون، يسوقون أنفسهم بأنهم أخبر منّا بالإسلام لتبرير احتلالهم وعدوانهم وعنجهيتهم، ويستغلون فترات الضعف والانضباع لدى قطاعات واسعة من المسلمين للهجوم علينا من خلال الإيهام باهتمامهم بمصالحنا مرة، والهجوم على أعز ما نملك أخرى. فهذا نابليون يبرر احتلاله لمصر بأنه يسعى ليعلّم المصريين الإسلام الصحيح، وهذا ماكرون يستغل حالة وهن المسلمين ليهاجم الإسلام.

في الواقع، فإن الإسلام لا يعيش ولم يعش أزمة بتاتا، وهو ليس بحاجة لإعادة هيكلة بقدر ما أن العقلية الفرنسية بحاجة لإعادة هيكلة، لأنها مأزومة ومهزومة. فالإسلام هو هو منذ بعث الله الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى أن تقوم الساعة، ولكن الذين يعيشون أزمة هم المسلمون، وليس لأنهم مسلمون بل لأنهم ليس لهم من إسلامهم سوى الاسم، وهو ما جعلَ ماكرون يتجرأ لأن يقول ما قال.

صحيح أن فرنسا تعيش أزمات عدة، وتبحث لها عن مكان تحت الشمس في "كابينة" القيادة، سواء الإقليمية الأوروبية التي خسرتها لصالح ألمانيا، أو على المستوى الدولي، وهي تبدو في ظل الهيمنة الأمريكية طفلا يتلمس طريقه في الظل، وصحيح أن لماكرون حساباته الانتخابية الداخلية حيث يريد أن ينافس اليمين الفرنسي بقيادة ماري لوبان، وأقصر الطرق لذلك هو مهاجمة الإسلام، لكن رغم ذلك كله فإن الكلام الذي صدر عن ماكرون والذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وهو الرئيس المسلم الوحيد الذي رد بالعملة ذاتها على ماكرون) بالوقاحة وقلة الأدب، لا يمثل ماكرون نفسه، فحسب، إنما يمثل اللائكية الفرنسية الاستعلائية، والتي رغم تغنيها بالتعددية والديمقراطية، لكنها في الواقع لا تحتمل التعددية ولا تحتمل الآخر، وهي مسكونة بالأنا الاستعلائية، وبالموروث الصليبي، والحاضر العَلماني المعادي للدين عموما، وللإسلام خصوصا.

فالإسلام لا يشكل تهديدا للمجتمع الفرنسي أو لأي من المجتمعات البشرية، بقدر ما أنه يشكل تهديدا لقيم الانحلال والعلمانية التي تقدسها اللائكية الفرنسية. ويلاحظ المتابع للمجتمع الفرنسي إقدام أعداد كبيرة من الفرنسيين على اعتناق الإسلام، وإن كانوا نسبيا مقارنة بعدد السكان قلة، لكنهم في المجموع العددي يشكّلون حتى مئتي ألف فرنسي من أصل 5-6 ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، يضاف إليهم أربعة آلاف معتنق جديد للإسلام من أصول فرنسية سنويا، حسب دراسة للمعهد الوطني للدراسات الديموغرافية (INED).

وهذا في الواقع هو الذي يقلق ماكرون، ويقلق اللائكية الفرنسية المنسحبة والمهزومة أمام نور الإسلام. إذ الإسلام رغم حملات التشويه والشيطنة الغربية الأوروبية منها، والأمريكية والعالمية، ورغم "شارلي إيبدو" وزميلاتها، يبقى يحمل في داخله بذور القابلية والجاذبية لكل باحث عن الحقيقة، وهو إذا ما أتيح له المجال بشفافية مطلقة ودون الحرب المُعلنة عليه يبقى عنصر الجذب الأول للناس، ومن هنا يعتبر ماكرون ولائكيته الفرنسية الإسلام تهديدا مباشرا لقيم العَلمانية الفرنسية.

أشبعنا الغرب ومبهوروه من العربان مدّعي الثقافة والتنور حديثا؛ عن قيم التعددية والديمقراطية والعيش المشترك وقبول الآخر وتقارب الشعوب والمجتمعات إلى حد التخمة، لكن يبدو أن هذه التعددية يجب أن تكون تعددية اللون الواحد، ذات نفس المنطلقات والمبادئ والقيم، فإذا امتازت هذه التعددية بغير ما هي عليه قيم العَلمانية فإنها تصبح تعددية رجعية ومرفوضة، وليس لها مكان في جمهورية العَلمنة.

وليس هناك فرق كبير في ذلك بين لائكية (علمانية) فرنسا ولا عَلمانية عموم أوروبا وأمريكا، ولا عَلمانية العربان، سواء تلك المبدئية التي لا تعرف أصول معاداتها للدين أصلا، أو تلك الساذجة المضبوعة التي تَعَلْمَنَت تقليدا للغرب، تعتقد أن هذا هو باب التنور والتطور والتقدم، فغُرِّرَ بها وأضاعت الطريق، فلا هي كسبت دينا يحمل كل بذور ما أرادت من تنور وتطور وتقدم، ولا هي قُبلت في المجتمعات الأوروبية "المتنورة".

وأكبر دليل على ذلك هو تصريح ماكرون الموجه للإسلام عموما، ولمسلمي فرنسا خصوصا الذين يشكلون كما قلنا 5-6 ملايين يعتبر 33 في المئة فقط منهم ممن يؤدون الشعائر الدينية من صلاة وصيام وزكاة، إضافة إلى أن التصريح كان في مدينة ذات غالبية مسلمة، وهو ما يؤكد الرفض الفرنسي لهم حتى وإن كانوا لا يؤدون الشعائر الإسلامية التعبدية. وبمعنى آخر، حتى لو كان هذا المسلم (والمسلمون في العقلية الفرنسية يعرفون كجالية واحدة) يتبنى العلمانية فإنه غير مرغوب به فرنسيا، فما بال علمانيي العرب المتنورين يتساقطون حول تصريح ماكرون كما يتساقط الذباب حول المصباح يظنون أنهم وجدوا ضالة ضاعت منهم؟