مقالات مختارة

مجزرة سريبرنيتشا: دروس غسل الأيدي المضرجة بالدماء

1300x600

خارج نطاق البوسنة والهرسك، ومناطق صربيا ذاتها، أحيت مدن عديدة الذكرى الخامسة والعشرين لمجزرة سريبرنيتشا، التي ارتكبتها القوات الصربية بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش يوم 11 تموز (يوليو) 1995، وذهب ضحيتها قرابة 8000 من مواطني البوسنة المسلمين. غير أنّ المرء لا يمرّ، من دون مغزى بالغ الخصوصية، على احتفال أقامته مجموعة منظمات مستقلة ذات صلة بالمهاجرين عموما والمسلمين بصفة خاصة، في مدينة لاهاي الهولندية؛ شاركت فيه وزيرة الدفاع، وزميلها الذي كان يتولى حقيبة التنمية والتعاون ساعة وقوع المجزرة. كذلك أعلن عمدة المدينة عزم المجلس البلدي على إقامة «نصب تذكاري وطني» يكرّم الضحايا، في توجّه نحو اعتراف أوضح بمسؤولية هولندا الجزئية عن تسهيل المجزرة.

وفي صيف 2017 كانت محكمة استئناف هولندية قد أكدت أنّ هولندا مسؤولة جزئيا عن مقتل نحو 300 رجل مسلم، طُردوا من قاعدة هولندية تابعة للأمم المتحدة في بوتوكاري، رغم المخاطر الواضحة التي تمثلت في تمكّن القوات الصربية من اجتياح منطقة سريبرنيتشا. قبل ذلك، في عام 2002، كانت الحكومة الهولندية قد اعترفت بالتقاعس عن حماية اللاجئين، متذرعة في الآن ذاته بأنّ قوات حفظ السلام كانت تؤدّي «مهمة مستحيلة». وأمّا في العام 1999 فقد كُشف النقاب، تحت ضغط الرأي العام وأحزاب المعارضة، عن نتائج تحقيق سرّي أجرته الشرطة العسكرية الهولندية، يقول بوضوح إنّ الهولنديين العاملين في صفوف القبعات الزرق كانت لديهم «أحكام سلبية ضدّ المسلمين، مقابل آراء إيجابية جدا حول صرب البوسنة».

وإلى هذا التذكير بمسؤولية بعض الديمقراطيات الغربية عن مآلات المجازر في البوسنة، سواء عبر قوات حفظ السلام الأممية أو عبر خيارات ميدانية عسكرية وأخرى جيو ـ سياسية خدمت الصرب مباشرة؛ ثمة تذكير خاصّ، لعله الأهمّ والأبرز دلالة، يخصّ السياسات الأوروبية والأمريكية التي أتاحت استيلاد مجزرة سريبرنيتشا من رحم وقائع مثل إسقاط مفهوم «المناطق الآمنة» وقصف سوق سراييفو؛ أو سياقات اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حين تواجد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في النقطة الحرجة الوسطى من لعبة شدّ الحبل مع الكونغرس والجمهوريين والعصاة الديمقراطيين.

ولقد تجسدت مفاعيل هذه السياسات على الأرض، سريعا في الواقع وطبقا لقوانين انهيار قطع الدومينو: انطلاق النمور الكرواتية من أقفاصها، وسقوط مدينة كنين كعتبة أولى لموازنة صربيا الكبرى مع كرواتيا التاريخية، وما بينهما دويلة علي عزت بيكوفيتش الإسلامية الفولكلورية. الأثر الأوّل، ولعله كان الأسرع والأخطر في آن معا، كان تقويض الفسيفساء الحضارية التعددية التي قامت عليها سراييفو طوال قرون، ولم يكن غريبا أن يبدأ التشوه منذ انخراط بيكوفتش في ارتهان مزدوج للإرادة الغربية من جهة، وللبترودولار والإسلام السعودي من جهة ثانية، ليس من دون مغازلة مع الإرث اليهودي – المسيحي و«العمق الحضاري الغربي – اللاتيني».

دروس الذكرى الخامسة والعشرين للمجزرة عديدة ومتنوعة ومتشابكة ومتغايرة، كما يليق بمنعطفات كبرى دامية في التاريخ الإنساني؛ غير أنّ الأجدى في استيعاب تلك الدروس وحسن توظيفها قد يكون التوقف، مجددا وبمزيد من التعمق، عند المعادلات العالقة التي تكتنف وجود البوسني المسلم، ولعلها تكمن خلف اندلاع أزمات متجددة، أو إعادة القديم منها على نحو معدّل. هنا استعادة لبعض تلك المعادلات:

1 ـ البوسنة والهرسك، ربما في المقام الأوّل، هي أحجية الإثنيات المتقاطعة المتشابكة التي تصنع موزاييك الفصل، ولكن الوصل أيضا، بين كرواتيا وصربيا؛ على خلفية تاريخية قابلة للتفجير الدائم، هي أنّ تركيبتها الديمغرافية تضمّ المسلمين، في محيط مسيحي أرثوذكسي وكاثوليكي. وتاريخها، في وضعية الموزاييك هذه تحديدا، يجعل توتّر الإحساس بالهوية أضعف بكثير مما هي عليه الحال في شمالها (حيث الكرواتي كرواتي ببساطة)، وجنوبها (حيث الصربي صربي)؛ الأمر الذي يعني أن وجود هوية بوسنية مستقلة، كفيلة بإقامة دولة تعددية متجانسة إثنيا وذات وسيادة وطنية، فكرة زائفة ومضللة.

2 ـ يصحّ، هنا، التذكير بأنّ مسلمي البوسنة جزء من إرث الفتح العثماني الذي أقام في المنطقة نحو خمسة قرون، وهم على غرار غالبية مسلمي البلقان لجهة توزّعهم على مجموعات سلافية كانت تتبع مذهبا مانويا/ زرادشتيا، واعتنقت الإسلام بصورة جماعية هربا من اضطهاد الكنيسة التي رأت في المذهب هرطقة تستوجب القمع. وإذا صحّ أنهم تمتعوا بحرّية دينية أكبر في ظل النظام الذمّي العثماني، فالصحيح أيضا أنهم انخرطوا في أطوار توتر فعلية مع السلطات العثمانية نجمت عن إدخالهم بعض الشعائر والمعتقدات الوثنية أو المسيحية إلى ما اعتقد العثمانيون أنها فرائض الإسلام الثابتة.

3 ـ لهذا، وسواه من أسباب ثقافية ليست سطحية التجذر، يميّز مسلمو البوسنة أنفسهم عن الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك طبقا لسلسلة عناصر تاريخية ودينية؛ ولكنهم في الآن ذاته، وهذا تفصيل بالغ الأهمية، لا يتكاتفون وطنيا بدافع من أي وعي بهوية قومية أو إثنية. الأمر ببساطة أنّ هوية من هذا الطراز لم تتبلور بالمعنى التاريخي، أو بالأحرى كانت ممتنعة وجوبا بسبب ما فرضه الزعيم اليوغوسلافي الشيوعي جوزيف بروز تيتو من هوية إسلامية مصطنعة؛ أريد لها أن تكون نقطة توازن أمام الخصومة الصربية ـ الكرواتية، سواء في إطار الفيدرالية (تعطيل فكرتي صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى)، أو ضمن جمهورية البوسنة والهرسك نفسها.

4 ـ هذا الغياب لوعي قومي أو إثني بالكيان، وبالهوية استطرادا، تراكم عبر العقود بتأثير من عوامل موضوعية متداخلة: ذوبان الإنتلجنسيا المسلمة في التيارات القومية الكرواتية أو الصربية، وعدم نشوء برجوازية إسلامية أو طبقات شعبية إسلامية ذات سمات محددة، وغياب المنظمات ذات الطابع الإسلامي أيضا (باستثناء «منظمة مسلمي يوغوسلافيا» التي تحالفت مع الصرب تارة والكروات طورا، بل لقد بلغت درجة التعاون مع نظام الـ «أوستاشي» الذي أقامه أدولف هتلر).

5 ـ ليست خلاصة عجيبة، والحال هذه، وبعد ستة قرون من هيمنة الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية، والغزوات البونابارتية، والتغلغل الأوروبي الكاثوليكي والروسي الأرثوذكسي والشيوعي التيتوي؛ أنّ الكرواتي سوف يظلّ كرواتيا والصربي صربيا، وتبقى ملفات كوسوفو ومونتينيغرو ومقدونيا وسراييفو بمثابة علامات البلقان العتيق التاريخي، ونقاط الشدّ والجذب بين روسيا وبلغاريا وألبانيا وهنغاريا ورومانيا واليونان وتركيا. ولعلها سوف تبقى أمثولة حديثة، ولكن دروسها دائمة المعاصرة، لتلك الحرب الباردة بين روما وبيزنطة، أو بين الحَمَل البلقاني الأسود والصقر البلقاني الرمادي كما يقول عنوان كتاب ربيكا ويست الشهير.

ولعل من مفارقات التاريخ، التي تتخذ أحيانا سمة المصادفات العشوائية، أنّ المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة كانت قد أصدرت حكمها بالسجن المؤبد على مجرم الحرب الصربي ملادتش؛ وفي الآن ذاته كان ثلاثة رؤساء، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، يجتمعون في سوشي لإصدار حكم ببراءة مجرم الحرب السوري بشار الأسد من المجازر والإبادات الجماعية ودماء 350 ألف قتيل وتشريد الملايين، واستخدام الأسلحة المحرّمة كافة، وتدمير البلد، وتسليمه إلى احتلالات إيرانية وروسية وتركية وأمريكية، فضلا عن الاحتلال الإسرائيلي. «برهة سربرنيتشا»، كما أسماها الدبلوماسي الأمريكي المخضرم نيكولاس برنز، حلّت في سوريا مرارا أمام مسمع رؤساء آخرين، شرقا وغربا وفي كلّ أصقاع مسمى «المجتمع الدولي»؛ لكنّ دروسها، الكبرى والصغرى معا، ظلت حبيسة معادلات جيو ـ سياسية تكيل بأكثر من مكيال، وتغسل بمياه المصالح أيّ يد مضرّجة بدماء الأبرياء.

(القدس العربي)