تقارير

عن الهيكل اليهودي والمسجد الأقصى.. نقاش تاريخي هادئ

فلسطين عرفت العربية منذ 12000 سنة قبل الميلاد (الأناضول)
عمد كتاب وإعلاميون عرب في الآونة الأخيرة إلى إعادة فتح ملفات تاريخية وحضارية، أهمها تلك المتصلة بالقضية الفلسطينية، التي تعيش مرحلة دقيقة في تاريخها، ليس فقط بعد المواقف الأمريكية المتصلة بالقدس وصفقة القرن ولا حتى بمشاريع الضم الأخيرة، وإنما بمسعى لتزييف الوعي التاريخي لدى الأجيال الجديدة.

آخر محاولات التزييف تلك المتصلة، بالمسجد الأقصى هل هو نفسه هيكل اليهود؟ حيث ذهب أصحابه إلى القول بـ "أن المسجد الأقصى كان الإسم القرآني للهيكل اليهودي في إسرائيل القديمة"، وأن "فلسطين كانت (الإسم الروماني لإقليم اليهودية) إبان ظهور الدعوة الإسلامية تحت السيطرة البيزنطية، وكان أغلب سكانها من اليهود والروم والسريان وبعض الغساسنة العرب المسيحيين، ولم يكن العرب المسلمون قد دخلوها بعد، إذ جرى ذلك لاحقاً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة 641م". 

ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن "الهيكل اليهودي، الذي تقره طائفة من الأدلة التاريخية والأثرية لم يعد اسماً إسلامياً هو أيضاً. سواء الهيكل الأول (957 ق.م ـ 586 ق.م) الذي بناه الملك التوراتي شلومو (سليمان) وخرّبه الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني، أو الهيكل الثاني (515 ق.م ـ 70م) الذي بناه الحاكم الأخميني زرُبّابل وجدده الملك هيرودس وهدمه القائد الروماني تيتوس".

أذكر هذه الأطروحات في مسعى لأن أقدم في هذه الورقة تقويمًا تاريخيًا لهذه النصوص. وبقليل من الجهد نستطيع أن نقتبس أقوالًا وحججًا من مصادر تاريخية تفنّد هذه الأطروحات وتكشف خلفيات إصرار البعض على استبدال اسم "فلسطين" بـ "إسرائيل القديمة"، وإنكار الوجود العربي في فلسطين، ومحاولة استبدال "المسجد الأقصى" بـ "الهيكل السليماني المُتخيل".

مصطلح "أرض إسرائيل"

ثمّة حقيقة مهمة أخرى تكمُن في أنّ قرنًا من البحوث الأثريّة المكثَّفَة؛ لم يتمكن من تقديم البُرهان على أن أرض فلسطين أُطلِق عليها يومًا ما، مصطلح "أرض إسرائيل"، كحيِّز إقليميّ خاضع لسيطرةِ الشعب اليهوديّ، ولم يظهر مصطلح "أرض إسرائيل" بمفهومه العامّ في أسفار التناخ (أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا) أيضًا.

يُشير شلومو ساند، في مقدمة كتابه "اختراع أرض إسرائيل"، إلى أنه ليس فقط في التناخ بل في كل الفترة المُمتدّة حتى خراب الهيكل في العام سبعين الميلاديّ، لم تُعتَبر المنطقة كـ "أرض إسرائيل"، لا من حيث لغة سكانها، ولا في نظر جيرانها، وإن محاولة العثور على المصطلح في أسفار المكابيين أو باقي الأسفار الخارجيّة عبثيّة، إذ ستذهب سدى محاولةُ البحث عن الكلمة في المقالات الفلسفيّة التي كتبها فيلون الإسكندرانيّ أو في الكتابات التاريخيّة التي ألَّفَها يوسيفوس فلافيوس.
 
صمت هيرودوت

من الأمور الواجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المقام، أنّ المؤرخ الإغريقيّ، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعُرف باسم أبي التاريخ، وألَّف كتاب "التاريخ"، حوالي سنة 440 ق.م، وترجمهُ إلى العربية، حبيب أفندي بسترس عن طبعة لارشي الفرنسيّ، تحت عنوان تاريخ هيرودوتس الشهير (1886 ـ 1887)، وعبد الإله الملاح، تحت عنوان "تاريخ هيرودوت"، الصادر عام (2001)؛ أطلقَ على المنطقة الممتدة من جنوبيّ مدينة دمشق إلى حدود صحراء سيناء، اسم "فلسطين"، ولا يأتي بأي ذكر لـ "إسرائيل"، كما يخلو كتابه من أي إشارة إلى الأحداث التوراتيّة. إن صمت هيرودوت يمنحنا الحق العلميّ في الاستنتاج بأنه لو سَمِع بذلك لسجَّلهُ، لأن هيرودوت، كتب مؤلَّفه اعتمادًا على ما رآه وما سمعه من أهل البلاد، أي أنه لم يختلق اسم «فلسطين»، وإنما نقل اسمًا كان مُستَخدَمًا في الإقليم نفسه خلال زيارته.

عروبة سكان فلسطين

تدل الهياكل العظمية التي عُثر عليها في مواضع مختلفة، فترة الحضارة الناطوفية (التي سميت كذلك باسم وادي النطوف شمالي غربي القدس، ودامت نحو ستة آلاف سنة اعتباراً من حوالي عام 12000 قبل الميلاد)، على أن أصحاب هذه الثقافة كانوا أقرب إلى قصر القامة، ويمتازون بالنحافة، يحملون صفات البحر المتوسط، برأسها الطويل، ووجهها الضيق ـ المسكون ـ مثل كثير من العرب الحاليين.

في هذا الصدد يقول، عالم الآثار الأمريكي، وليم أولبرايت، و"كان الناطوفيون أنفسهم من شعوب البحر المتوسط القديمة، التي تتميز بهياكل عظمية نحيلة، ورؤوس مستطيلة، وتقاطيع دقيقة، ومتوسط طول الرجال يزيد قليلاً على خمسة أقدام. وحيث إنه وجدت هياكل بشرية مشابهة جداً لهذه الهياكل في حضارة البداري في مصر، وكذلك من العصر النحاسي المتأخر في جازر وجبيل (بيبلوس)، فإنه يبدو أن هذه الشعوب انتمت إلى أسلاف السلالة السامية ـ الحامية التي لم تكن قد أصبحت بعد منقسمة إلى مجموعات متباينة بعضها عن بعض تبايناً واضحاً لغوياً وقومياً كما حدث في ما بعد. ولعل التغير الوحيد الملحوظ في الصفات الجسمانية حدث في الطول، غير أنه من المعروف تماماً الآن أن التحسن في التغذية لبضعة أجيال قليلة جداً تنتج منه زيادة محسوسة في الطول".

يلمس المؤرخ في تاريخ فلسطين، منذ العصر الحجري الحديث، بعض الظواهر الحضارية الخاصة، التي تؤكّد توافد سلالات بشرية من الصحراء إلى هذه المنطقة، لا شك أنها سامية أو بالأصح جزرية. وفي هذا السياق، يقول توماس طمسن، إن هذا التغيّر في سوريا ـ فلسطين، أواخر العصر الحجري الحديث، وأوائل العصر النحاسي يجب ألّا يُعتبر غزواً كثيفاً، أو اقتلاعاً للسكان المحليين. إبّان العصر الحجري الحديث كان الخليط الإثني في فلسطين قد أصبح معقداً، ولا معلومات لدينا عن أية تطورات مهمة، خلال فترة الانتقال إلى العصر النحاسي، وأكثر من ذلك فإنّ وجود مستويات ثقافية، ومادية لدى السكان المحليين، ووجود قرى ومدن ذات حجم كبير، ونظام اجتماعي تفوق أي شيء يمكن توقعه، يجعل من الصعب أن نتصور سوريا ـ فلسطين عرضة لغزو قام به عدد، لا بد أن يكون صغيراً، من الفلاحين والرعاة الساميين (الجزريين) والأحرى هو أن السكان المحليين استمروا وأن التغير كان لغوياً وتدريجياً. 

ويضيف طمسن قائلاً: "مهما كانت هذه الهيكليات التاريخية احتمالية فإنها توحي بوضوح بأن السكان الأصليين في فلسطين لم يتغيروا كثيراً منذ العصر الحجري. وخلال فترة الألف السادس ـ الرابع قبل الميلاد أصبحت فلسطين سامية (بمفهوم لغوي)، وخلال العصر البرونزي القديم أقامت نمطاً استيطانياً واقتصادياً بقي من خصائص المنطقة حتى الحقبة الآشورية، في الأقل".

من هنا يتضح لنا، أن فلسطين عرفت العربية منذ 12000 سنة قبل الميلاد، وليس كما يزعم البعض بأن العرب المسلمين قد دخلوها لاحقًا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.

غياب أي دليل أثري!

على الرغم من أن الأثريين ليس بإمكانهم إظهار دليل على أن هيكل أورشليم كان له وجود في القرن العاشر قبل الميلاد. ففي علم الآثار الإنجيلي يجري استخدام التصورات عن هيكل سليمان بوصفها من مفاهيم الترتيب الزمني لتاريخ بني إسرائيل، وهو ما يرفع الأسطورة الإنجيلية إلى مصاف الحقيقة التاريخية.

ليس في آثار بلادنا فلسطين كلها أية إشارة إلى وجود هيكل سليمان، وهذا أمر معروف تماماً لدى أهل الاختصاص من علماء الآثار الذين طالما حاولوا العثور على أثر واحد في موقع الحرم الشريف بالقدس، فلم يفلحوا، ولن يفلحوا لأبسط الأسباب، وهو أن سليمان لم يملك يوماً على بلادنا فلسطين، بل وليس هناك أقل دليل على أنه وطئ أرضها في زمانه.

يقول الباحث التاريخي السويدي، هانس فوروهاجن، في كتابه "فلسطين والشرق الأوسط بين الكتاب المقدس وعلم الآثار": "إن وصف الكتاب المقدس هذا هو الوثيقة الوحيدة التي لدينا عن هيكل سليمان. فالمبنى لا وجود له في حوليات الآشوريين أو البابليين، ولا وجود له في النقوش التي عثر عليها في أنحاء مختلفة من الأرض المقدسة، كما لا توجد أية مكتشفات أثرية تشير إلى أن هيكلاً كبيراً قد وجد في أورشليم خلال القرن العاشر قبل الميلاد".
 
في هذا السياق، يقول أوسشكين، أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب: "من منظور علم الآثار ليس هناك ما يمكن معرفته عن جبل الهيكل في القرنين العاشر والتاسع ق.م". أما جين كاهل، أستاذة آثار في الجامعة العبرية فتقول: "ليس هناك أي بقايا أثرية في القدس يمكن أن تعرّف بثقة بأنها تعود إلى أي بناء سماه الكتاب". 

ويؤكد ذلك نايلز لمكه، أستاذ الدراسات التوراتية في جامعة كوبنهاغن: "لم يكتشف نقش واحد يعود إلى زمنهما [داود وسليمان] ولم تكتشف كسرة واحدة من بناء عظيم".

يدحض توماس طُمسن، في كتابِهِ "الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)"، مفهوم بناء الهيكل السليماني، بوصفِهِ مركزاً لعبادة يهوه، قائلاً: "تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي. إننا نعرفها فقط كقِصَّة، وما نَعرفهُ حول هذه القِصص، لا يُشجِّعنا على معاملتها، كما لو أنها تاريخيَّة".

إذن لم يكن ثمة هيكل في فلسطين يعرف باسم "هيكل سليمان"، إن قصة بناء الهيكل السليماني غير قابلة للتصديق، وإنها مجرد اختلاق توراتي. وهذا يدحض الفكرة القائلة بـ "أن المسجد الأقصى كان الإسم القرآني للهيكل اليهودي في إسرائيل القديمة".
 
فإن لم تكن هناك "إسرائيل القديمة"، ولم يكن هناك بناء في فلسطين يعرف بـ"هيكل سليمان"، فلا يمكن للمرء أن يتكلم عن أن المسجد الأقصى كان يسمى هيكل اليهود. فهذا ضرب من التلفيق المعرفي والتاريخي.

*كاتب وباحث فلسطيني