أفكَار

اليسار الجزائري.. تقدمية المشيخة وغياب التحديث الفكري (2من2)

اليسار الجزائري غيب روح المبادرة الفردية والإبداع (الأناضول)

الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه. 

ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السفييتي مع الثورة البولشيفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفًا واسعًا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.

عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...

وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..

وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..

"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية.. 

اليوم يقدم الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار عرضا مفصلا حاصا بـ "عربي21" عن تاريخ نشأة اليسار في الجزائر وتفرعاته ننشرها في جزأين:

اليسار و"المشيخة" التقدمية


يبقى أبرز ما ابتلي به اليسار الحالي، هو تسلط الزعاماتية على قيادته، بشكل تجاوز فيه بمراحل الفكرة الكلاسيكية الخاطئة عن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، والتي عادة ما يتم اتهامهم بأنهم يصنعون مُريدين "للمشيخات" وليس مناضلين.

لقد ظل زعيم "القوى الاشتراكية" حسين آيت أحمد على رأسه منذ انشائه العام 1963 إلى غاية وفاته (23 كانون أول / ديسمبر 2015)، أي أكثر من 50 سنة، من دون أن يترك قيادته يوما واحدا، على الرغم من أن جل حياته كانت في الخارج متنقلا بين سويسرا وفرنسا.. وبقيت لويزة حنون رئيسة لحزب العمال منذ نشأته إلى يوم الناس هذا، لمدة تجاوزت 30 سنة، وهي لم تغادر زعامتها حتى عند دخولها السجن قبل عام جراء اتهامها في قضية التآمر على قيادة الجيش الجزائري، وترأس الاتحاد العام للعمال الجزائري، نقابي بورجوازي أكثر من 20 سنة، ولولا الحراك لما تزحزح من مكانه، والأمر نفسه حدث مع الطليعة الاشتراكية الذي تزعمه الراحل الهاشمي شريف.

هذه الوضعية غير السوية، وهذه الزعاماتية المتكلسة أفقدت اليسار الجزائري مصداقيته أمام الجماهير، حتى بات يضرب به المثل في التشبث بالكرسي، وكم هي تعاليق الجزائريين لاذعة، عندما يسخرون من دعوات قيادات هذا اليسار النظام الجزائري للتغيير والتداول على السلطة، بينما لا يفعلون ذلك في أحزابهم، ولا يعترفون بشيء اسمه التداول على المنصب، ولا تجديد  قياداته المركزية، الأمر الذي قلص حظوظه كثيرا في أن يكون تيارا معياريا أو نموذجيا في الديمقراطية، كما نفر شرائح يفترض أنها خزانه الانتخابي كالعمال والفلاحين من الإيمان بمشروعه أو الانتماء والنضال في صفوفه. 

وقد أحدث هذا وعيا جماعيا أن اليسار الحديث هو أسوأ من التيار الإسلامي في قضية "الزعامة"، وأن "المشيخات" البروليتارية التي هي الوجه القبيح للبرجوازية المتخفية، ليست أكثر من عناوين فارغة، عجزت على أن تكون طليعة سياسية وثقافية وفكرية مستقطبة، واكتفت بكونها مجرد عناوين "جهوية" طاردة.

غياب التحديث الفكري

أما أخطر المعوقات التي أدت إلى هذا المآل البائس، وإلى ما يمكن تسميته بأزمة وجود، بعد تراجع حصصه المطرد في المجالس المنتخبة، فتعود إلى أزمة فكرية عميقة، مرتبطة بالتكلس وعدم التحديث الفكري، مع فشل عارم في صياغة نظرية الدولة التقدمية الحديثة في الجزائر، والعيش على فضلات الفكر الماركسي أو التروتسكي القديم، الذي تجاوزته الأحداث بعد التغيرات الكبرى التي عرفها العالم الشرقي، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.

ما يثير الانتباه أن اليسار الذي يتهم الإخوان المسلمين بكونهم تيارا غير وطني، على اعتبار وجود ما يسمى بالتنظيم الدولي للإخوان في العالم، ما زال إلى اليوم يتحرك في كثير من فعالياته ضمن فعاليات "الأممية الاشتراكية"، والعجيب أن جبهة القوى الاشتراكية" المعارضة ليست وحدها المنتمية لتلك "الأممية" بل إن جبهة التحرير الوطني" الحاكمة، ما زالت تحتفظ بانتمائها لهذا التنظيم الأممي تقليديا، رغم أنها عمليا تعد خارجه، والسبب أنه لا يوجد تحديث فكري، ولا حتى "اجتهادات" بالمصطلح الإسلامي، لمسايرة المتغيرات الضخمة الحاصلة.

ولعل بقاء حزب العمال الذي تتزعمه لوزيرة حنون، متشبثا بقشور الفكر التروتسكي المتطرف، في بيئة لا علاقة لها بالمطلق بهذا الفكر، يفسر طبيعة الإعاقة الحاصلة ضمن "عقل اليسار"، والذي لم  يكتف باستيراد العقيدة السياسية الجاهزة، وإنما بالركون للقديم منها، عبر تكرير نفس المصطلحات القديمة، ونفس العبارات التي تدعي التمايز الايديولوجي، بينما هي في الحقييقة عنوان كبير للعجز والخمول.
 
والمذهل أن اليسار الذي يفتخر عادة بامتلاك إطارات تخص عالم الفن والثقافة والإعلام، فشل بشكل لا يقل سوء من فشل التيارات الإسلامية، في إحاطة نفسه بإطارات مثقفة لديها فكر استراتيجي، ولا حتى برنامجا انتخابيا مقنعا، من غير الكليشهيات القديمة التي جعلته أسير ثقافة الحزب الواحد في طرق التفكير والممارسة، وأسير منظومة فكرية مادية بائدة، لا تنتمي لثقافة الشرق الروحية.

التأثير الفرنسي في اليسار الجزائري

ويعطي هشام مطاطلة، القيادي في حركة "عزم" الجزائرية، رؤيته حول تشكل اليسار الجزائري تاريخيا، معتبرا أن نواته الأولى كانت من رحم الحزب الشيوعي الفرنسي ثم استقل عنه جزئيا بداية من سنة 1936، كونه كان يضم في صفوفه وفي قياداته على الأخص أعضاء جزائريين وآخرين فرنسيين (أو جزائريين من أصل أوروبي)، وهو ما جعل التعايش داخل الحزب نفسه أمرا عسيرا سرعان ما تحول إلى المستحيل بحلول عام 1953.

 

كل التيارات السياسية الجزائرية اليوم مطبوعة بطابعين اثنين: السطحية والتطرف، وهذان طابعان يجعلان من التعايش مستحيلا بينها جميعا، بل إنهما يؤسسان لمسارات جديدة تصل حد تنكر اليساري لقيم مجتمعه بل تصل به حد الخيانة والارتماء في أحضان من يعادي قيم من يراه عدوا له وإن كان مستعمر الأمس نفسه،

 



ويضيف هشام مطاطلة في موضوع نشأة اليسار الجزائري، أن صعوبة التعايش بين الفرنسيين والجزائريين داخل الحزب تجلت بعد أحداث 08 أيار (مايو) 1945، حيث كانت مواقف الحزب متذبذبة جدا لم ترق إلى ما كان الشعب الجزائري ينتظره من إدانة للهمجية والوحشية الاستعمارية، مواقف لم يتم تداركها إلا في نهاية العام على استحياء حيث إنها لم تتجاوز المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين من الأهالي. وقد اعترفت قيادة الحزب (بعد انتقالها سنة 1948 من عمار أوزقان إلى العربي بوهالي ببعدها عن الجماهير الجزائرية وعن الخط النضالي للحركة الوطنية، هذا الاختلاف وهذا البعد تجلى واضحا حين قاطعت الأحزاب الوطنية انتخابات سنة 1951 وشارك فيها الحزب الشيوعي الجزائري تحت ضغط الحزب الشيوعي الفرنسي بعد أن كان قد أعلن مقاطعته لها باعتباره جزءا من "الجبهة الجزائرية للدفاع واحترام الحريات" (FADRL)، التي كانت تضمه رفقة حركة انتصار الحريات الديمقراطية والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

 


 
ويؤكد هشام مطاطلة أن مواقف الحزب الشيوعي الجزائري من الثورة كانت هي التي أعلنت بداية الانفصال الحقيقي بينه وبين "الأخ الأكبر"، حيث جاءت بياناتهما متناقضة تماما فهذا مؤيد والآخر مندد، واستمر الحزب الشيوعي الجزائري في دعم جبهة التحرير الوطني، فيما اختار أن يمارس العمل المسلح بشكل منفصل من خلال ما سمي "المحاربون من أجل التحرير" (CDL). بعد مفاوضات مع قيادات من جبهة التحرير الوطني ـ التي كانت قياداتها متوجسة في البداية من الحزب الشيوعي الجزائري نظرا لكونه يضم عددا من الأوروبيين في صفوفه ـ التحق عدد كبير من المحاربين بجيش التحرير الوطني ثم صار هو الوعاء الجامع للجميع، بينما رفض الحزب أن يُحل في الجبهة وآثر الاستمرار في النضال السياسي باستقلالية وإن لم تكن استقلالية تامة.

أما بعد الاستقلال فقد تحول الحزب الشيوعي الجزائري بحسب هشام مطاطلة دائما، إلى حزب الطليعة الاشتراكية PAGS الذي اندمج في النهج الاشتراكي الذي تبناه هواري بومدين بداية من سنة 1971، فمُكّن له وتولى عدد من كوادره المسؤوليات السياسية السامية وتغلغلوا في دواليب الاتحاد العام للعمال الجزائريين والاتحاد العام للطلبة الجزائريين، بينما تعرض آخرون إلى السجن والتعذيب والاضطهاد. ولأن الساحة السياسية كانت فارغة في ظل حكم الحزب الواحد فإن الجامعة كانت هي المسرح الأكبر للتجاذبات السياسية والأيديولوجية التي مهدت بدورها لبروز التيارات السياسية حين تم الانفتاح بعد ذلك بحوالي عقدين من الزمن. 

أوهام "تشي غيفارا" الزائفة

ويرجع هشام مطاطلة في حديثه لـ "عربي21"، فشل هذا التيار في الإقناع إلى فشله في اتخاذ المواقف الصحيحة خلال الحقبة الاستعمارية فانعكس ذلك على كل تشكيلات اليسار خلال عهد التعددية الأول (هذه الأحزاب التي لم يرق أداؤها في الحقيقة إلى الدرجة التي يمكن أن تجعلنا نعلق عليه بشكل من الأشكال). 

وفي بلاد احتكمت منذ استقلالها إلى الشرعية الثورية ـ ولو شكليا ـ فإن الحزب الشيوعي الجزائري تعتبر شرعيته الثورية مطعونا فيها إلى حد ما، يُختلف في ذلك حسب الموقع والزاوية الذي ينظر إليها منهما؛ فمن وجهة نظرنا إذا نظرنا إلى الشرعية الثورية للحزب الشيوعي الجزائري من حيث المساهمة في العمل المسلح فلا شك أن له رصيدا وإن لم يبلغ رصيد جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني بكل التشكيلات التي ذابت فيها لتكون كيانا موحدا في وقت كان لابد فيه من التوحد، أما إن نظرنا من جانب العمل السياسي فإن الحزب الشيوعي قد زلت قدمه في غير ما موضع.

 

"النخب" الليبرالية هي ذاتها "النخب" اليسارية بعد عملية "رسكلة"، ففي بلادنا الجزائر، والبلاد العربية عموما، تكون النخب التي تدعي أنها يسارية عرضة للتحول بمجرد تحول النهج الاقتصادي للسلطة والمؤسسات السياسية

 



كما إن فشل هذا التيار في الإقناع خلال مرحلة الانفتاح السياسي يرجع لكونه ساند من قبل حكما سياسيا استبداديا دكتاتوريا، ففقد مصداقيته لدى كثير من المنتمين إليه ولدى كثيرين ممن لم ينخدعوا بالسراب الذي انبهر به غيرهم، ولم يبق له من اتباع إلا صنفان من الناس: المدركون لمخرجات الانفتاح السياسي القريبون من دوائر القرار لكونهم صنيعة أجهزة المخابرات، والشباب الحالمون الباحثون عن مجد أو بطولة زائفة الذين ارتبط وصف اليسار عندهم باسم تشي غيفارة أو كاسترو أو غيرهما.

ويشدد مطاطلة على أن اليسار السياسي لم يكن له قبول في الشارع الجزائري إلا قليلا، بل إنه يلاحظ أن اليسار عندنا إنما هو تيار تنمو "نخبه" وتزدهر عن طريق التخندق في صف السلطة لا في صف الشعب (ينبغي التفريق هنا بين النخب التي تتبنى فكرا وتدافع عنه والنخب التي تأخذ بالقشور ولا هم لها سوى السمعة والشهرة والمكاسب الظرفية).

النخب اليسارية متحولة و"برجوازية"

ولا يوافق هشام مطاطلة فكرة أن اليسار الجزائري تراجع لصالح التيار الليبرالي، ذلك أن "النخب" الليبرالية ـ برأيه ـ إنما هي ذاتها "النخب" اليسارية بعد عملية "رسكلة"، ففي بلادنا الجزائر، والبلاد العربية عموما، تكون النخب التي تدعي أنها يسارية عرضة للتحول بمجرد تحول النهج الاقتصادي للسلطة والمؤسسات السياسية، فهذا النوع من النخب يحتاج لبداية تمكنه إلى القوة المباشرة (قوة السلاح أو قوة الدبابة كمما هو متعارف عليه، وهو ما يفسر مساندة أحزاب اليسار لانقلاب جنرالات الدم على الخيار الشعبي سنة 1991 و1992) ثم بعد ذلك، لبسط سيطرته، يحتاج إلى القوة غير المباشرة (قوة المال)، فهذه النخب اليسارية تصير هي نفسها "البرجوازية"، أي أنها تصل إلى الثروة عن طريق السلطة، بينما وصلت البرجوازية الغربية إلى السلطة عن طريق الثروة، وهذا الفرق، بل هذا التناقض راجع إلى كون الرقيب والراصد في بلداننا، والذي يتمثل في المجتمع المدني (خاصة في غياب سلطة القانون)، ليس إلا نتاجها هي، وهو واقع تحت سيطرتها فيغض الطرف عن جميع ممارساتها كونه مستفيدا مما يقتات عليه من فتات السلطة. 

مرجعية السطحية والتطرف

وبخصوص المرجعية الفكرية للتيار اليساري الجزائري الأصلي يرى هشام مطاطلة أنها رغم ما يشوبها من نقص إلا أنها معتدلة إلى حد بعيد، فهي في أصلها مرجعية فكرية تهدف إلى تحقيق قيم العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة والرفاه، وتنبذ لا ـ دينية المادية الجدلية، وتسعى إلى تجسيد قيم إنسانية مشتركة ولا تتنكر بحال من الأحوال للقيم التي تحكم المجتمع الجزائري وعلى رأسها الدين الإسلامي، والمناضلون الأولون في الحزب الشيوعي الجزائري ـ في غالبيتهم ـ من أولئك الذين كانوا لا يختلفون في شيء عن مناضلي حزب الشعب الجزائري (بل إن بعضهم كانوا من المنتمين إليه) أو مناضلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أو منتسبي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلا من حيث التوجه السياسي أو بالأحرى الخيارات والمواقف السياسية، ولكن الذين جاؤوا بعدهم بدلوا تبديلا كثيرا وعميقا. 

إن مآل اليسار الجزائري ـ برأي هشام مطاطلة ـ لا يختلف أيضا في شيء عن مآلات باقي التوجهات السياسية أو التيارات، فكل التيارات السياسية الجزائرية اليوم مطبوعة بطابعين اثنين: السطحية والتطرف، وهذان طابعان يجعلان من التعايش مستحيلا بينها جميعا، بل إنهما يؤسسان لمسارات جديدة تصل حد تنكر اليساري لقيم مجتمعه بل تصل به حد الخيانة والارتماء في أحضان من يعادي قيم من يراه عدوا له وإن كان مستعمر الأمس نفسه، وتنكر الإسلامي للقيم الإنسانية الجامعة وإن كانت في أصلها لا تنفك عن القيم الإسلامية التي يدعو إليها، وتجعل اللبرالي الذي كان يدعي أنه يساري في وقت ما أو الذي مازال يدعي ذلك حتى يتمكن من الثروة، المذبذب اللاهث خلف المادي دون الاكتراث لما هو فكري أو أخلاقي أو قيمي، يذهب بالغنائم جميعا، وتجعل ـ وهذا الأهم ـ تغيير النظام مستحيلا.

يسار خارج الحركية الشعبية / الحراكية


من جهته، يعتبر الإعلامي فيصل مطاوي، أن اليسار الجزائري مع ما حدث من حراك شعبي في الجزائر، فشل في أن يتجدد وأن يساير الحركية الشعبية التاريخية التي كانت متسارعة جدا خاصة في السنة الماضية، وأنه حاول أن يركب موجة الحراك الشعبي بمحاولة تأطيره، لكنها كانت محاولات بائسة وأن اليساريين حاولوا حتى بث بعض الأفكار والتحريض ضد الاسلاميين، عبر التخويف من الإسلاميين مرة، والتحذير من العسكر مرة أخرى، ثم قال بعضهم أن التغيير يجب أن يكون من داخل النظام وبعضهم قال بوجوب إحداثه من خارج النظام، وبالتالي تشتت هذا اليسار إلى عدة أفكار ومواقف مبعثرة.

وأكد فيصل مطاوي لـ "عربي21"، أن اليسار الجزائري لم يستطع أن يستجمع قواه ولم يستطع أن يبني مشروعا جديدا وأفكارا جديدة، ذلك إن حزبا مثل حزب العمال مثلا بقي متشبثا بأفكار لم تتغير منذ عقود طويلة، رغم وجود الرقمنة واقتصاد السوق وظهور طاقات متجددة وأفكار جديدة دخلت على الخط، ولكن هذا الحزب عندما تقرأ برنامجه تجده ما زال في نفس الفكر الذي كان سائدا في ستينيات القرن الماضي.

 



إن حزب العمال أو الطليعة الاشتراكية (الباكس سابقا) والذي تغير في عدة مرات، وتجزأ الى عدة أحزاب صغيرة مثل حزب التحدي ثم الحركة الديمقراطية الاجتماعية ثم الى تيارات عديدة لم تستطع كلها أن تتفق على مشروع واحد، لمجابهة المشاريع الأخرى، مقابل ذلك دخلت في عدائية متواصلة ورفضت حتى التحاور مع التيار الاسلامي ومع التيارات الأخرى وظلوا يحذرون حتى من التيار الوطني وغيره، ما جعل اليسار هذا يدخل في قوقعة أخرى، فيما بقي اليسار القديم ممثلا في حزب القوى الاشتراكية هو الوحيد الذي حاول أن يتلاءم شيئا ما مع الأوضاع، حيث اتخذ طريق المعارضة المتواصلة مع النظام وهو الحزب الذي نشأ في ستينيات القرن الماضي، لكن حتى هذا الحزب وبعد وفاة زعيمه الراحل حسين آيت أحمد تشتت بعض الشيئ أيضا، حيث أنه كان مبنيا وقويا بزعيمه التاريخي، الا أن الذين أتوا بعده لم يستطيعوا أن يكونوا في مستوى ارث ايت أحمد، وفشلوا في إعطاء الحزب بعدا عصريا يتأقلم مع الأوضاع الجديدة للجزائر، أين ظهرت أجيال جديدة تبحث عن أفكار جديدة ولا تتقبل الفكر الشمولي والزعاماتي الجامد .

ويعتقد فيصل مطاوي أن هناك مشكلا مع المرجعية الفكرية لهذا التيار، فمثلا (الباكس) أو الحركة الديمقراطية الاجتماعية، يرفضون وصفهم بأنهم (حزب شيوعي)، حتى أن بعض الصحف الفرونكفونية في الجزائر لا يستعملون هذا الوصف عندما يتعلق بالباكس الذي حاول في فترة ما الهيمنة على الصحافة الناطقة بالفرنسية، ولكنه فشل، وكأنه يستحي من أن ينسب للمرجعية الشيوعية، وبالتالي فهناك مشكل في المرجعية الفكرية لهذا التيار.

وختم فيصل مطاوي حديثه بالتأكيد أيضا على فشل اليسار الجزائري في تأطير الشباب وخاصة في الجامعات، مثلما كان الحال في سنوات السبعينيات والثمانينيات، أين كان له حضور بارز وكذا في الحركة الجمعوية والمجتمع المدني، اليوم فقد هذا التيار مواقعه تلك لفائدة تيارات أخرى وطنية وإسلامية والتي باتت تستثمر كثيرا في هذا الفراغ.

حتمية انتاج فكر اشتراكي عربي

بالنهاية، ستظل لعنة اليسار الجزائري الكبرى، هي تكريسه ما يمكن تسميه عقلية "البايلك" أو "الذهنية الاشتراكية"، التي غرست في الشعب سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والتي صنعت انسانا "اتكاليا" ينتظر الدولة لكي تطعمه وتكسوه وتعلمه وتداويه.. وتغييبه روح المبادرة الفردية والابداع، ولذلك يجدر باليسار أن يعيد قراءة أدبياته، وأن لا تكون مشكلته الكبرى هي الاسلاميين كما هو حاله اليوم بل الاستبداد، فلقد حركت الامبريالية العالمية البرتودولار سنوات الحرب على الشيوعيين في أفغانستان لضرب اليسار، وها هي توظف نفس السلاح لضرب الاسلاميين، أما الاستمرار في اعتبار ثورات الشعوب والربيع العربي مؤامرة خارجية لا علاقة لشعوب المنطقة بها، فذاك ما يجعل هذا التيار عدو شعاراته "الثورية".

إن الاقرار بتقادم اليسار التقلدي، يستلزم الخروج سريعا من هذه الشرنقة، بحيث يتيح انتاج فكر اشتراكي عربي نابع من بيئته ولا يصادم ثوابة أمته وتاريخها، ولعل المثال الجزائري الذي قدمناه ما يجلي بوضوح صورة ذلك، فيسارية مصالي الحاج التي انطلقت من تربة البلاد وأصالتها، جعلت منه زعيما وطنيا خالدا، وكذلك كان الحال مع بومدين، بينما طمس التاريخ معالم بشير حاج علي، الصادق هجرس والهاشمي شريف من قيادات الحزب الشيوعي الجزائري بعد الاستقلال، لأنها انطلقت من أرضية معاداة قيم الشعب، وكذلك يفعل التاريخ بباقي رموز اليسار الحاليين.. فهل من معتبر؟.

 

إقرأ أيضا: اليسار الجزائري.. تقدمية المشيخة وغياب التحديث الفكري (1من2)