قضايا وآراء

تحديات تواجه العمل الخيري العربي: فلسفة نظام الحكم (1)

1300x600
في العام 2018 أصدرت هارفارد أول تقرير لها يكشف واقع العمل الخيري حول العالم (مركزا على الجهات المانحة)؛ جاء في بند منه أن 60 في المئة من مجموع الأموال الخيرية حول العالم موجودة في أمريكا، يليها 37 في المئة في أوروبا، وما تبقى موزع حول العالم.

هذه نسبة مذهلة جدا، ولا أرى إلا أنها حقيقية، وهي، بلا شك، مرتبطة بفلسفة نظام الحكم في تلك الدول، حيث المواطن مكرم مصان من الجوع والعري والعوز من جهة، وفي الجهة المقابلة (في الثلاثة المئة المتبقية) لا قيمة للمواطن إلا وفق هوى النظام.

وفي مقال له على موقع إيلاف بعنوان "الجمعيات الخيرية تدعم مواجهة الحكومة البريطانية لكورونا"، بيّن الكاتب نصر المجالي أهمية العمل التطوعي الخيري الاجتماعي كرافد مهم للاقتصاد في المملكة المتحدة، حيث تنفق الجمعيات الخيرية أكثر من (40) مليار جنيه إسترليني سنويا، وتوظّف نحو (872,000) شخص، وتساهم بأكثر من (12) مليار جنيه إسترليني سنويا في اقتصاد المملكة المتحدة، مثل القطاع الزراعي. وتوجد أكثر من (166,000) جمعية ومؤسسة تطوعية في بريطاني، بميزانية تقدر بــ(43) مليار جنيه إسترليني تقريبا، وممتلكات وأصول بنحو (105) مليارات جنيه إسترليني.

في عدد يوم 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 من جريدة الصفاة الإلكترونية الكويتية، وتحت عنوان "أهم 10 جمعيات خيرية في العالم طبقا لحجم التبرعات"، كان مبلغ إيرادات هذه الجمعيات العشر في تلك السنة (33,5) مليار دولار، وجميعها أمريكية (جمعية الطريق المتحد العالمية، فرقة العمل المعنية بالصحة، منظمة تغذية أمريكا، جيش الخلاص، جمعية الشبان المسيحيين الأمريكية، مستشفى القديس جودا لأبحاث الأطفال، الغذاء من أجل الفقراء، نوادي البنين والبنات الأمريكية، الجمعيات الكاثوليكية الأمريكية الخيرية، غودويل اندستريز إنترناشونال). وغني عن القول أن عدد الجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة الأمريكية يزيد على مليون ونصف جمعية، وتزداد كل شهر.

بالنتيجة المستخلصة، فإن أمريكا وأوروبا المحكومة بأنظمة ديمقراطية تؤمن تداول السلطة واختيار الحاكم والرقابة الشعبية على التشريع وعلى السلطة التنفيذية، ويكون الشعب فيها هو المصدر الحقيقي للسلطات.. في وجود كل تلك العوامل تنتعش روح التضامن الفطرية لدى أبناء الوطن الواحد، سواء تجاه بعضهم بعضا أم تجاه الآخرين. والقول بالأهداف السياسية للمتبرعين لا يمنع من الاعتراف بأنهم يسدون حاجات فطرية ضرورية، لو تنبه لها الآخرون (ممن حولهم أو ممن يسمون إخوانهم) لأغلقوا الأبواب في وجهها، ولكن الجوع والحرمان والعري أشد من التبرير.

والآن نأتي إلى عالمنا العربي.. ميدان العمل الخيري (القطاع الثالث في الدول) ميدان مظلوم، وهذا الظلم لا ينفصل عن غشاء الظلم السلطوي للدولة. إذ طبيعة النظام لا تتجزأ، فالظلم الاقتصادي أو الظلم الاجتماعي أو الظلم التربوي لا يمكن أن ينفصلوا فيما بينهم، فعندما ترى ظلما في مجال واحد لن ترى عدالة، أبدا، في مجال آخر.

هذا العنوان افتتاح لسلسلة مقالات تتعلق بالعمل الخيري العربي، وليس المقصود من التخصيص هنا فصل العمل الخيري عن باقي مكونات المجتمع، ولكن المقصود التركيز، لأن العمل الخيري العربي يشكل معاناة لا تجدها في غير عالمنا العربي والحال مثله في العالم الإسلامي، ولن تظهر وجوه المعاناة إلا بالمقارنة بالحال فيما لدى الغرب في هذا المجال.

للحديث عن العنوان بموضوعية، سنأخذ الملامح العامة للنظام الرسمي العربي، وأثرها على الملامح العامة للعمل الخيري في الدول العربية. وسنبتعد عن التخصيص بالدول، وكذلك سنستخدم أقل العبارات مجاهرة بالحقيقة، كله لأن المطلوب هو إيصال الفكرة وليس المصادمة والاستعداء. وننوه هنا إلى أن التعميم خطأ، ولكن الوضع هنا يشمل الأعم الأغلب من الأنظمة الرسمية العربية.

يتميز النظام الرسمي العربي بالآتي:

1- انعدام الديمقراطية: حيث الديمقراطية، موضوعا وإجراء، تقوم على المساءلة. والمساءلة تتعادل بالمسؤولية، وإذا انعدمت مساءلة المسؤول الأول (الحاكم) فلا تتوقع وجود مساءلة حقيقية لمن هم دونه، وهذا هو الحال في الدول العربية إلا القليل منها.

2- أثر انعدام الديمقراطية على مكونات الدولة الثلاث: أثر ذلك واضح أمام الجميع، وفساد المسؤول الأول عن السلطة التنفيذية يحتم فساد المسؤولين عن السلطتين الباقيتين (وصفناها بالباقيتين لأن السلطة التنفيذية تملأ الواجهة ولا تترك إلا حيزا قليلا لهما)، إذ المنطق لا يقبل فساد جزء رئيس وصلاح جزأين مهمشين، فالضعيف تابع للقوي.

3- التبعية الكاملة للخارج: فالمسؤول العربي يكون سخيا مع الجمعيات الأجنبية (حتى مع جمعيات الحيوان) في الوقت الذي يشيح بوجهه عن جمعيات وطنه. إذ وجوده في الحكم مخلدا يعتمد على درجة تبعيته للخارج، وهذا انعكاسه واضح من حيث إغلاق أفق العمل الخيري الذي يعمل لتربية المواطن، أو الذي يعمل لانتمائه وولائه الحقيقيين، وما ملاحقات الجمعيات الخيرية في الأوطان العربية، خاصة في ما يتعلق بفلسطين وأهلها، إلا وجه ظاهر للتبعية التامة المخلصة.

4- العسكرة: النظام العربي نظام عسكري في قوامه وفي تفكيره واستراتيجياته، لذلك تجد العسكري الذي تربى في الغرب على الولاء والطاعة للغرب (وهذا هو الموجود لدينا)، وعلى القسوة والاستبداد تجاه أبناء وطنه، وهو عادة من النخب العسكرية المصنوعة بعناية لامتداد السيطرة على الوطن العربي من قبل الغرب، تجده في موقع القرار، خالدا مخلدا في موقعه وفي سوطه أيضا المؤلم الجارح (خلود للصفة والوظيفة لا للشخص).

5- محاربة المنافس: يعتقد السياسي في وطني العربي الكبير أن الذي يعمل الخير يريد منافسته على سلطاته، خاصة إذا فاز أحد العاملين في هذا المجال بانتخابات، حتى على أبسط المستويات (مقعد في جمعية طلابية مثلا)، فتراه يكثف أجهزة الرصد لديه، ويستنفر قواته ومخابراته واستخباراته وخيوط استشعاراته للمحاصرة والتضييق. ويعتقد في فكره أن هذا قادم لينافس، لذلك لا بد من القضاء عليه في الوقت والحين.

كشفت حالة كورونا بشكل جلي استبعاد الجمعيات الخيرية في غالب بلادنا العربية من المساعدة وتقديم العون، وأغلقت في وجهها كل السبل للمساعدة، حتى لو هلك من هلك من المواطنين جوعا ومرضا وعطشا وقهرا. 

6- ماكنة القانون: في ظل صورية مجالسنا البرلمانية، فإن الخط مفتوح بين السلطة التنفيذية من خلال مؤسساتها وأدواتها الإدارية القوية والمرعبة وبين النواب، وما على الأولى إلا أن تأمر، والثانية لا جواب لديها إلا الموافقة والانصياع، وانتظر بعدها من القوانين ما يضيق الأنفاس تحت حجج ما أنزل بها من سلطان، وكلها تحت عنوان مكافحة الفساد!!

7- أنانية وسادية: نخبنا العربية في السلطة الحاكمة أو القريبة منها لا يهمها من الأمر إلا مكتسباتها، فهي تأخذ اللقمة من فم الفقير لتصنع منها جبالا من الأموال المهربة خارج البلاد.. أنانية بشعة، وسادية مخيفة، ولا أدل على ذلك من حملات طلب الغوث التي أطلقتها الدول العربية للمساعدة في مواجهة احتياجات المواطنين بسبب كورونا، رأينا أن غالبية الأغنياء يبخلون، فالوطن لهم حقيبة مملوءة بالمال، ويتقدم الفقراء الذين يشعرون بالوطن.

والنتيجة: إذا قسمنا أنظمة الحكم إلى نوعين، ديمقراطي واستبدادي، فإن كل واحد فيهما يحمل في طياته أثره البالغ على الوطن وعلى المواطن. ففي الوقت الذي يولي النظام الديمقراطي وجهه إلى الوطن والمواطن، ويتحسس حاله، ويترك لغيره في المجتمع القيام بهذه المهمة دون غضاضة أو مضايقة أو استهزاء أو تربص، ويساعده بالأدوات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويعمل على تمدده رأسيا وأفقيا، فإن الآخر (الاستبدادي القمعي) لا قيمة للمواطن ولا الوطن لديه إلا بمقدار ما تتحقق ديمومته، لذلك تراه يتخذ من الأدوات التشريعية والتنفيذية والقضائية سيفا يقطر دما من كثرة ضحاياه.

لا يمكن للوطن العربي إلا أن يوصف بالضائع الحزين، ومع ذلك، تبقى على الأفراد مسؤولية وجدانية تجاه الأخوة الوطنية والإنسانية تجعله يصبر على المشكلات أمامه، ويتعامل معها بمداراة، إلى أن تقضي الدولة على عمله، أو يتوفاه الله على طريقه، طريق الخير.