كتاب عربي 21

في نعي الولع بالألقاب

1300x600

لاحظت في السنوات الأخيرة، أن كل صحفي سوداني تتم استضافته في برنامج حواري في الإذاعة أو التلفزيون، يفوز بلقب محلل سياسي، وبعد ثورة كانون أول (ديسمبر) 2018 الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير، صار نصف العاملين في الحقل الإعلامي محللين سياسيين، لأن تنويع الوجوه والأسماء على الشاشات وخلف المايكروفونات استوجب تنويع الاستضافات، وفي ظل مجانية توزيع الألقاب بات واضحا أن الصحفيين الذين يظهرون على شاشات التلفزة على وجه التحديد، يستعرون من مسمى صحفي، ويحسبون أن قرن أسمائهم بالتحليل يرفعهم درجة عن الصحفيين "العاديين".

وثمة أمر آخر لاحظته على شاشات القنوات التلفزيونية السودانية، وهو أنه إذا ظهر عليها شخص (من الجنسين) يرتدي الزي الإفرنجي جاء اسمه مسبوقا بـ "أ" التي ترمز إلى "أستاذ"، أما إذا تعلق الأمر باستنطاق شخص من عامة الناس، فإن اسمه يأتي متبوعا بـ "مواطن"، وكأنما الزي هو الذي يحدد ما إذا كان الإنسان أستاذا أم لا، وكأنما الأستاذ هذا ليس مواطنا.

ما زال القاموس السوداني الخاص بالنداء والإشارة إلى الناس خاليا من الألقاب، من شاكلة صاحب المعالي/ السعادة/ الفخامة، فرأس الدولة يأتي ذكره مسبوقا فقط بـ "السيد"، ولكن وفي الحديث العادي يكون اسمه نميري/ سوار الذهب/ عمر البشير/ البرهان، ولكن وفي السنوات الأخيرة صار هناك سخاء في توزيع الألقاب، بحيث صار الطالب في السنة الأولى بكلية الهندسة "باشمهندس"، رغم أن معظم حاملي رخصة ممارسة الهندسة لا يستحقون هذا اللقب، لأنه يعني كبير ورئيس المهندسين.

 

أعتقد أن الصحافة المصرية وبحكم ريادتها في عصر احتكارها لجمهور القراء في معظم الدول العربية، كرست مفردات وعبارات التمجيد المتوارثة من العهد العثماني، والإنسان المصري عموما شديد التهذيب في مخاطبة الآخرين

 



ربط الاسم الفعلي للإنسان بالمهنة آفة جلبها علينا المحامون، فهم من دون سائر أرباب المهن الأخرى لا يكتبون أسماءهم إلا متبوعة بـ "المحامي": فلأن ابن فلان المحامي، حتى لتحسب أن الكلمة اسم عائلة كبيرة ممتدة من المحيط إلى الخليج، ولن يصادفك اسم متبوع بكلمة المحاسب أو الإداري أو السمكري.
 
في أول زيارة لي للندن سعيت إلى التداوي من علة ما كعادتي باللجوء إلى الصيدلية مباشرة، ودخلت إحداهن ووقفت أمام لابس الروب الأبيض وقلت له بإنجليزية لندنية: هالو دكتا، عملا بالتقليد الإنجليزي الذي لا يعترف بحرف الراء "R" في أواخر الكلمات وأحيانا في منتصفها، بحيث تعايشت وتسامحت مع جعل اسمي جافا، ربما من منطلق أنني من بلد يعاني من الجفاف والتصحر، فإذا بالرجل يقول لي إنه ليس "دكتا"، بل فارماسيست أي صيدلاني، وقلت في سري: يعني دكتور يا سخيف.

لو قلت لصيدلاني في بلداننا صباح/ مساء الخير يا صيدلاني لاعتبر ذلك ضربا من الاستخفاف، فهو لا يرضى بأقل من طبيب/ دكتور صيدلاني، وينطبق نفس الحال على ممارس البيطرة: ممنوع تناديه يا بيطري، ورغم أن جماعة طب الأسنان يدرسون معظم أصول وفروع الطب البشري، إلا أنهم وفي كثير من الدول لا يعتبرون أطباء/ دكاترة، ويبلغ السخاء بنا أننا ننادي بعض ذوي الباع الطويل في مجال التمريض بـ "يا دكتور" وهم يستحسنون ذلك.

وأعتقد أن الصحافة المصرية وبحكم ريادتها في عصر احتكارها لجمهور القراء في معظم الدول العربية، كرست مفردات وعبارات التمجيد المتوارثة من العهد العثماني، والإنسان المصري عموما شديد التهذيب في مخاطبة الآخرين، ولا ينادي على أحد إلا مسبوقا بـ "سيد"/ "أستاذ"/ "بيه"، وإذا أراد أن يعطيك الإحساس بأنك عالي الشأن جعلك "باشا" ومسميات مثل باشمهندس وباشممرض وباشكاتب توطنت في العامية المصرية لنحو قرن وتسللت إلى عاميات شعوب عربية أخرى.

أما لبنان، مسقط رأس الديمقراطية الحزبية الوراثية، فإعلامها الأكثر سخاء في توزيع وتكريس الألقاب، وهي البلد الوحيد في العالم الذي قد تصادف فيه تسعة أشخاص أحياء يحملون مسمى "رئيس"، وليس في القاموس السياسي اللبناني مكان لكلمة "سابق/ أسبق"، فإذا شغلت منصب رئيس البرلمان أو الجمهورية أو مجلس الوزراء صرت رئيسا حيا أو ميتا..

 

ربط الإسم الفعلي للإنسان بالمهنة آفة جلبها علينا المحامون، فهم من دون سائر أرباب المهن الأخرى لا يكتبون أسماءهم الا متبوعة بـ "المحامي": فلأن بن فلان المحامي، حتى لتحسب أن الكلمة اسم عائلة كبيرة ممتدة من المحيط إلى الخليج، ولن يصادفك اسم متبوع بكلمة المحاسب أو الإداري أو السمكري.

 



وإذا أراد خليجي أن يرفع معنوياتك ويؤكد لك أنك كبير في نظره دعاك بـ "الشيخ"، غير أن مفردة "مدير" تسللت من ألسنة الهنود العاملين في الخليج إلى ألسنة الخليجيين، فصار من المألوف أن يتنادى الناس بـ "يا مدير"، بينما أتى الهنود بالكلمة لأنهم نتاج مجتمع فيه تراتبية طبقية من يوبا راج نزولا إلى هاريجان "منبوذ"، ولابد من احترام تلك التراتبية قولا وفعلا.

وفي تقديري فإن الاعتداد بالألقاب المهنية والوظيفية والاجتماعية والسياسية والإفراط في استخدامها دليل على اختلالات مهنية وظيفية واجتماعية وسياسية، لأن الغرض منها التباهي و/ أو النفاق، وعندما يكون النفاق وبائيا كما هو حادث في بلداننا راهناً، فقد تحسب أن الشاعر الأندلسي محمد بن عمار المهري ما زال حيا يرزق بقوله:

ألقاب مملكة في غير موضعها      كالهرِّ يحكي انتفاخا صولة الأسدِ