كتاب عربي 21

الوجه الإنساني للفوقية العرقية وللنيوليبرالية

1300x600

منذ لحظة انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 لم يغادر الشعور بالإحباط المثقفين الليبراليّين البيض. فكلما ازداد الهجوم الذي تشنه وسائل الإعلام الأمريكية الليبرالية التي تسيطر عليها شركات رأسمالية على ترامب، ازدادت شعبية الرجل، الذي تدعمه شركات أخرى، باطراد. وفي حين يتظاهر الليبراليون البيض بالقلق من استمرار تفكيك ترامب لدولة الرفاه الاجتماعي واستعادة النظام العلني الممأسس للفوقية العرقية الأبيض، فإنّ أنصار ترامب، وهم غالبية المواطنين البيض، يحتفون بهذه الإنجازات ويطالبون بالمزيد. فما الذي يجعل ترامب إذاً أكثر إقناعا للعديد من الأمريكيين من وسائل الإعلام الليبرالية ومثقفيها؟

لكي نجيب على هذا السؤال، ولنفهم كيف تعي الثقافة السياسية الأمريكية مبدأ دولة الرفاه الاجتماعي وتفكيك نظام التفوق العرقي الأبيض والعلاقة بين الاثنين، ينبغي علينا في المقام الأول أن نعود إلى فجر العلاقة التي ربطت بينهما.
 
في خضم الانهيار الاقتصادي الرأسمالي في عشرينيات القرن العشرين، قرر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت تبني سياسة "الصفقة الجديدة" أو "New Deal"، وهو الاسم الذي أطلقه على عملية مأسسة دولة الرفاه الاجتماعي في البلاد ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي (والتي بنى عليها خلفاؤه ووسعوا نطاقها وخدماتها حتى عقد الستينيات). وقد تبنى روزفلت مبدأ دولة الرفاه في سبيل إنقاذ الرأسمالية الأمريكية من الخطر الشيوعي الوشيك مع الحفاظ على نظام الفوقية العرقية، وليس بسبب أي ميول اشتراكية لم تكن لديه قط. فقد كانت الثورة الروسية تؤسس نفسها في منتصف عشرينيات القرن العشرين كمثال يحتذى للعالم، وأصبح للحزب الشيوعي الأمريكي تأثير كبير على الحركة العمّالية الأمريكية، ما شكّل تهديدا للنظام الرأسمالي.

 

 

تبنى روزفلت مبدأ دولة الرفاه في سبيل إنقاذ الرأسمالية الأمريكية من الخطر الشيوعي الوشيك مع الحفاظ على نظام الفوقية العرقية، وليس بسبب أي ميول اشتراكية لم تكن لديه قط.

في الواقع، وفي ظل الانتصار الكبير الذي حققه الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية، حيث كان 90 في المئة من قتلى الحرب الألمان قد سقطوا على الجبهة السوفييتية، فقد غدا تهديد الشيوعية هائلا في نهاية الحرب العالمية الثانية، لدرجة أن الدول الرأسمالية البيضاء قررت إيقاف المنافسة فيما بينها، تلك المنافسة التي تسببت بالحربين العالميتين، وتبني سياسة الوحدة الرأسمالية لمواجهة التهديد الشيوعي. وبمساعدة خطة مارشال الأمريكية لانتشال أوروبا من وضعها الاقتصادي المزري بعد الحرب، سنّت الدول الرأسمالية الأوروبية إصلاحات تبنت بموجبها مبدأ دولة الرفاه الاجتماعي لدرء الثورات الشيوعية في الداخل، وأنشأت حلف شمال الأطلسي لاحتواء التهديد الشيوعي السوفييتي في الخارج.

بدأت الدعاية المعادية للسوفييت تزداد حدة وجدّيّة بعد الحرب. فقد شن الأمريكيون حربا دينية ضد السوفييت بوصفهم علمانيين وملحدين، وقرر الرئيس دوايت آزنهاور أن يتعمّد كنسيا أثناء توليه منصبه الرئاسي، ودعا القسّ البروتستانتي المتعصب بيلي غرام للانضمام لفريقه كمستشار روحي للبيت الأبيض. وكان آيزنهاور هو أول من ابتدع تقليد "إفطار الصلاة الوطنية"، وكان يستهل اجتماعات مجلس الوزراء بلحظة صمت للصلاة، كما قام بتحويل نشيد "قسم الولاء الأمريكي" في عام 1954 من نص يقول: "أتعهد بالولاء لعلم الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية التي تمثلها، أمّة واحدة، غير قابلة للتجزئة، تمنح الحرية والعدالة للجميع"، إلى التعهد بالولاء إلى "أمّة واحدة قائمة تحت رعاية الله". وفي عام 1956، أصدر الكونجرس قانونا وقعه آيزنهاور أضاف من خلاله عبارة "توكلنا على الله" (In God we Trust)، لتتم طباعتها على العملة الورقية الأمريكية، لتحل محل العبارة السابقة (E Pluribus unum)، أي "من بين الجموع، واحد"، المستخدمة منذ عام 1776. وأعقب ذلك تشريع آخر في الكونجرس جعل هذه العبارة الدينية الشعار الوطني الرسمي للولايات المتحدة.

احتفت الصحافة الليبرالية الأمريكية، المرتهنة للشركات الكبرى وحملتها ضد الشيوعية، بهذه التحولات. وفي واقع الأمر، كانت إدارة آيزنهاور هي التي جندت الدين بشكل عام واخترعت "الجهاد الإسلامي" المناهض للشيوعية (كما هو موضح في وثيقة صدرت عام 1953 أعدها كبير المسؤولين الأمريكيين عن استراتيجيات الحرب النفسية في إدارة آيزنهاور، إدوارد ب. ليلي، تحت عنوان "العامل الديني") كسلاح ضد الشيوعية السوفييتية واشتراكية العالم الثالث، والتي تعاقدت مع المملكة العربية السعودية بعد فترة وجيزة لرعايته. ونتيجة لمأسسة آيزنهاور للمسيحية البروتستانتية، ارتفعت نسبة المتدينين الأمريكيين من 49 في المئة في عام 1940 إلى 69 في المئة في عام 1960.

حدثت كل تلك التحولات بينما كان الجنوب الأمريكي يدار من قبل نظام التفوق العرقي الأبيض، جيم كرو، فيما هيمنت المؤسسات والهياكل العنصرية على الشمال وعلى الحكومة الفيدرالية. ففي حالة الشمال، تمثل الوعد الأساسي لدولة الرفاه الاجتماعي التي أقامها روزفلت بتطوير وتوسيع سيادة العرق الأبيض، فقامت القوانين الفيدرالية بإنشاء بلدات للبيض فقط في ضواحي المدن، فرضتها "التعهدات" القانونية المقيِّدة عرقيا لامتلاك العقارات والمنازل، بينما اقتصر قانون إعادة تأقلم الجنود (الجي آي) الصادر في عام 1944 والذي مُنح الجنود بموجبه مساعدات إسكانيّة وتعليميّة؛ على البيض.

 

 

 

حدثت كل تلك التحولات بينما كان الجنوب الأمريكي يدار من قبل نظام التفوق العرقي الأبيض، جيم كرو، فيما هيمنت المؤسسات والهياكل العنصرية على الشمال وعلى الحكومة الفيدرالية

وبينما كان الجنوب الأمريكي يرزح تحت وطأة القوانين العامة لنظام جيم كرو، كان الشمال يرزح تحت وطأة القوانين العنصرية الخاصة المكتوبة في "تعهدات" عقود بيع المنازل وعبر فرز مناطق تعليمية للبيض فقط، تحظى بميزانيات أعلى وتعتمد على أساس الضرائب العقارية. وفي هذا السياق، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكيّة محكومة بنظام التفوّق العرقيّ الأبيض، في شمالها كما في جنوبها، كانت الصحافة الأمريكية الليبرالية والمثقفون الأمريكيون يتغنون بأمجاد الديمقراطية الأمريكية مقابل الشيوعية الملحدة.

ولكن إذا كان بإمكان دولة الرفاه الاجتماعي سحب البساط من تحت أقدام الشيوعيين، فإن مشكلة الفوقية العرقية البيضاء قد جعلت الولايات المتحدة هدفا لهجوم مناهضي العنصرية، الشيوعيون منهم وغير الشيوعيين، في جميع أنحاء العالم. وقد كان ذلك أمرا خطيرا بشكل خاص بالنسبة للإمبريالية الأمريكية، حيث توجّهت أنظار الدول التي كانت قد تحررت مؤخرا وتخلصت للتو من نير الاستعمار العنصري الأوروبي إلى السوفييت، كنموذج اشتراكي مناهض للعنصرية للتحالف معه بدلا من نظام التفوق العرقي الأبيض السائد في الولايات المتحدة.

فمثلما تقنّعت دولة الرفاه الاجتماعي الأمريكية بوجه إنساني للرأسمالية، كانت هناك حاجة لتقنيع التفوق العرقي الأبيض الأمريكي بوجه إنساني أيضا. في ذلك الوقت، أسفر الحكم في قضية براون ضد مجلس التعليم للمحكمة العليا لعام 1954 عن بداية تفكيك نظام الفصل العنصري في المدارس وفي النظام التعليمي ككل. وقد تم ذلك بشكل أساسي، ليس كتنازل للأمريكيين السود، بل كجزء من الاستراتيجية الإمبريالية لجذب دول العالم الثالث، التي اشمأزت من نظام التفوق العرقي الأبيض في الولايات المتحدة.

 

 

 

مثلما تقنّعت دولة الرفاه الاجتماعي الأمريكية بوجه إنساني للرأسمالية، كانت هناك حاجة لتقنيع التفوق العرقي الأبيض الأمريكي بوجه إنساني أيضا

لكن لم تكن السيطرة على زخم النضال الأسود لإنهاء نظام التفوق العرقي الأبيض داخل الولايات المتحدة، الذي استمر في الستينيات مع زيادة التنازلات الليبرالية البيضاء من قِبَل الدولة ونظامها القضائي، ممكنة، لا سيما في مجال تفكيك هياكل الفوقية العرقية البيضاء الرسمية وقوانينها في الشمال والجنوب من أجل تجميل الواقع القبيح لفوقية العرق الأبيض الأمريكية. لقد احتفت الصحافة الليبرالية الأمريكية والمثقفون البيض الليبراليون مرة أخرى بإنجازات الدولة في تفكيك الهياكل الرسمية للفوقية العرقية (بينما استهدفت الصحافة الليبرالية البيضاء ما أسمتهم بـ"الراديكاليين" السود بحملات دعائية عنصرية معادية) كدليل على أمجاد الديمقراطية الأمريكية ضد "الشمولية" الشيوعية. لكن ذلك لم يكن مستساغا للثقافة السياسية العنصرية البيضاء التي ينهل منها معظم الأمريكيين البيض، لا سيما أنّ الصور العنصرية لغير البيض استمرت على قدم وساق على شاشات أقنية التلفزيون الليبرالية وفي أفلام هوليوود التي يهيمن عليها البيض، إنّ لم نقل في الثقافة الأمريكية عموما.

أفزعت هذه التنازلات التي أضعفت تفوق العرق الأبيض المُمأسس اليمين الجديد، الذي شجعته الليبرالية البيضاء في مناهضتها للشيوعية، وفي عنصريتها، وفي امتثالها للمأسسة الدينية التي فرضها آيزنهاور. فبدأ اليمين في تنظيم نفسه في أواخر الستينيات مطالبا بإعادة مأسسة التفوق العرقي الأبيض وبتفكيك دولة الرفاه الاجتماعي. تم تأسيس نظام "جيم كرو الجديد" في السبعينيات وتم تكثيفه منذ الثمانينيات لإبقاء الأمريكيين السود "في مكانهم" عبر الزجّ بهم في السجون بأعداد هائلة، بينما استجاب رونالد ريغان وخلفاؤه لمطالب الشركات بالتخلص من الاتحاد السوفييتي بالمرة وإلى الأبد كي يتم تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي بأمان ودون تهديدات.

 

 

 

بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، قام بيل كلينتون وباراك أوباما بتعزيز نظام "جيم كرو الجديد" وبتدمير ما تبقى من دولة الرفاه الاجتماعي، عبر سربلة النيوليبرالية الأمريكية والتفوق العرقي الأبيض بوجه إنساني جذاب

وبمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، قام بيل كلينتون وباراك أوباما بتعزيز نظام "جيم كرو الجديد" وبتدمير ما تبقى من دولة الرفاه الاجتماعي، عبر سربلة النيوليبرالية الأمريكية والتفوق العرقي الأبيض بوجه إنساني جذاب. وهذا هو السبب في أن تولي أوباما منصب الرئاسة، على وجه الخصوص، كان ولا يزال أفضل تطور حدث على الإطلاق لليبراليين البيض. وبسقوط التهديد الشيوعي، الذي كان السبب في إقامة دولة الرفاه الاجتماعي وتقويض نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة، فقد الخطاب الليبرالي للديمقراطية الأمريكية المزعومة، والمنتشر منذ الستينيات، أهميته، وسرعان ما انكشف أن المفاهيم الليبرالية والعنصرية لـ"التعددية الثقافية" و"التنوع،" التي لم تحسّن حياة غالبية السود أو اللاتينيين أو الأمريكيين الأصليين من الهنود، الذين يتواصل فقرهم وقمعهم، كما هو حال البيض الفقراء (وغالبية الفقراء في الولايات المتحدة هم من البيض)، على أنها حيل نيوليبرالية وليبرالية للفوقية العرقية لا أكثر.

 


لم يلق الإعلام الأمريكي الليبرالي التجاري يوما باللوم على أصحاب رأس المال البيض من أصحاب الشركات الكبيرة لمسؤوليتهم عن الفقر الذي يعاني منه الأمريكيون، بل لطالما كان الإعلام جزءا من الهجوم الرأسمالي العنصري على دولة الرفاه الاجتماعي منذ السبعينيات، وبشكل متزايد منذ الثمانينيات، بوصفها نظاما يمنح امتيازات للأمريكيين غير البيض "الكسالى" على حساب الأمريكيين البيض "الذين يعملون جاهدين". ونتيجة لذلك، ترسخت عند غالبية الفقراء البيض فكرة أن هويتهم الحقيقية والوحيدة هي هويتهم العرقية البيضاء، وليست هويتهم الطبقية كفقراء، وأن عدوهم الحقيقي والوحيد ليس أصحاب رأس المال البيض المسؤولين عن إفقارهم، بل ضحايا رأس المال من غير البيض والمهاجرين الفقراء.

فعندما وصل ترامب إلى المشهد، لم يُعلّم الأمريكيين البيض الفقراء أي معلومة لم تكن الثقافة الأمريكية ووسائل الإعلام والبروتستانتية التبشيرية منذ عهد بيلي غرام قد غرستها فيهم. إن استراتيجية ترامب، شأنها شأن استراتيجية اليمين المتشدد العنصري الذي هو جزء لا يتجزأ منه، هو إقناع الفقراء البيض بأنه يقف إلى جانبهم كشعب أبيض، وأن عدوهم ليس فقط ما تبقى من دولة الرفاه الاجتماعي، ولكن أيضا الديمقراطية الأمريكية "المتعددة الثقافات" زعما، والتي في حقيقة الأمر كانت الليبرالية البيضاء قد استخدمتها كغطاء للتستر على تفوق العرق الأبيض منذ السبعينيات. لكن ما يعد به ترامب الأمريكيين البيض الفقراء، الذين يفتقرون إلى الامتيازات العرقية البيضاء والامتيازات الطبقية، والذين يصفهم الليبراليون البيض، كما فعلت هيلاري كلينتون، بـ"المشينين"، هو استعادة نظام التفوق العرقي الأبيض الرسمي، الذي يعتقدون غافلين بأنه سيخفف من فقرهم.

 

 

ما يمثله دونالد ترامب هي هذه التطلعات للشركات الرأسمالية، والتي تم الدفع بها من قبل وسائل الإعلام والثقافة الليبرالية الأمريكية منذ الخمسينيات. فترامب في واقع الأمر هو نتاج مسار الليبرالية الأمريكية البيضاء هذا، وليس متناقضا معه

إن ما يمثله دونالد ترامب هو هذه التطلعات للشركات الرأسمالية، والتي تم الدفع بها من قبل وسائل الإعلام والثقافة الليبرالية الأمريكية منذ الخمسينيات. فترامب في واقع الأمر هو نتاج مسار الليبرالية الأمريكية البيضاء هذا، وليس متناقضا معه. لذلك عندما يتنطع الصحفيون والمثقفون الليبراليون الأمريكيون المنافقون لمساءلة ترامب في مؤتمراته الصحفية (وهذا واضح جدا للعيان خلال أزمة كورونا الحالية) أو يتناقشون على شبكات التلفزيون الليبرالية في مسألة جاذبيته الانتخابية لدى الكثير من الأمريكيين، يتفوق ترامب عليهم بسهولة في النقاش ويفضح نفاقهم دون أن يستطيعوا الرد عليه بنفس المهارة السجالية. ما يفسر هذا الإنجاز هو التزام ترامب الصادق باستعادة نظام التفوق العرقي الأبيض الأمريكي الرسمي الفخور بذاته والرأسمالية المتنصلة من أي كوابح، ما يجعله يقف صامدا في وجه تذبذب الليبرالية الأمريكية البيضاء والتزامها المتواصل بتفوق العرق الأبيض وإن كان متسربلا بوجه إنساني، أكان ذلك الوجه أبيض أم متشحا بالسواد.