قضايا وآراء

الحاجة إلى علمنة السياسة في عالمنا العربي

1300x600

عادة ما يُربط حياد الدولة بالشأن الديني فقط، فيعُنى بالحياد هنا أن الدولة مطالبة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع المواطنين في ما يتعلق بمبدأ احترام المساواة الأخلاقية والدينية.

وهذا الحياد في الشأن الديني هو أحد تجليات العلمانية في المجتمعات الغربية المعاصرة إلى جانب الحق في حرية الضمير.

وبطبيعة الحال، لم يكن لهذه المجتمعات أن تصل إلى تلك المرحلة إلا بعد تحقق النظام الديمقراطي-الليبرالي وانتهاء الأيديولوجيات الدينية والدنيوية الكبرى، فالديمقراطية تؤمن المساواة والليبرالية تؤمن الحرية.

في عالمنا العربي تبدو الحاجة ماسة إلى علمنة السياسة والدولة قبل الحديث عن علمنة الدولة والمجتمع على المستوى الديني، والمقصود بعلمنة السياسة، ليس إبعاد السياسي عن الديني، حيث أصبح الأخير خاضعا للأول ومحددا من قبله، بل المقصود هو نزع القدسية عن الأفكار والأيديولوجيات الدنيوية التي تفرضها الأنظمة التسلطية الاستبدادية على شعوبها.

 

في عالمنا العربي تبدو الحاجة ماسة إلى علمنة السياسة والدولة قبل الحديث عن علمنة الدولة والمجتمع على المستوى الديني

 



يميز الفيلسوفان شارلز تايلور وجوسلين ماكلور بين نوعين من القيم: القيم المحايدة والقيم غير المحايدة.

الأولى مرتبطة بأفكار البشر ومعتقداتهم الشخصية سواء الدينية أو الدنيوية، وفيها تكون الدولة على الحياد من هذه القيم، أما الثانية، فهي قيم غير محايدة، لكنها ضرورية للدولة من أجل بناء النظام سياسي متطور يحتوى الكثرة في إطار الوحدة، نظام يتحقق فيه العقد الاجتماعي وحكم القانون والاختيار الحر والعدالة والمساواة.

وعلى الرغم من أن هذه القيم غير محايدة، إلا أنها شرعية حسب الفيلسوفين، فالسيادة الشعبية والحقوق الأساسية للأفراد كقيم، هي من المكونات الرئيسية للنظام السياسية الغربية، من دونها لا تكون هذه النظم نظما ديمقراطية ـ ليبرالية.

إنها سمة تسم الدول الغربية المتطورة بما فيها فرنسا التي تضع العلمانية في وجه الدين بشكل قاس وتفرض أيديولوجية دنيوية مقدسة، فغدت التنظيمات المؤسساتية التاريخية مكونا أساسيا لهوية الجمهورية.

الهدف من ذلك، كان من أجل فرض الامتثال المدني أو الإدماج المدني، وقد يبدو هذا التصور مفهوما في سياق نشوء وتطور العلمانية الفرنسية من رحم الحروب الدينية ـ السياسية العنيفة التي شهدتها البلاد خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي ما تزال ماثلة إلى الآن في أذهان النخب الفرنسية.

 

في المجتمعات الغربية ثمة فصل بين الدولة والمجتمع يتوسطه المجتمع المدني، أما في المجتمعات العربية، فلا وجود لهذا الفصل، لأن الأنظمة اخترقت المجتمع وفتته.

 



الوضع في عالمنا العربي مختلف جدا، ففرض أيديولوجيات سياسية معينة من قبل الأنظمة الحاكمة على شعوبها، لم يكن بغرض تحقيق الامتثال المدني ضمن هوية وطنية جامعة تكون مقدمة لبناء الدولة الحديثة، وإنما من أجل توطيد سلطة الحكام بشكل واع وغير واعي لدى أفراد المجتمع.

الفرق بين الحالتين الفرنسية والعربية، هو خلاف هائل في السياق الفكري والتاريخي، في فرنسا تم فرض العلمنة من أجل إبعاد الدين عن الفضاء العمومي ومنعه من لعب أي دور في التفرقة الاجتماعية، أما في الدول العربية (سوريا، مصر، العراق مثلا)، فإن فرض أيديولوجيا معينة، إنما هدف إلى تدجين المجتمع وفق طروحات تساعد الأنظمة الحاكم على توطيد سلطتها.

في المجتمعات الغربية ثمة فصل بين الدولة والمجتمع يتوسطه المجتمع المدني، أما في المجتمعات العربية، فلا وجود لهذا الفصل، لأن الأنظمة اخترقت المجتمع وفتته.

في سوريا، تبدو هذه الحالة أكثر وضوحا عن باقي الدول العربية، فقد عمد نظام البعث إلى تضخيم الكثير من الأفكار وتحويلها إلى أيديولوجيات أضفي عليها الكثير من القداسة، بحيث أن أية محاولة لرفضها من قبل الأفراد ستؤدي بهم إلى الخروج عن الإجماع المفروض من أعلى.

أدرك النظام البعثي جيدا أن حالة التنوع الاجتماعي ـ السياسي في سوريا لن تسمح بديمومة الحكم، وكان لا بد من نفي المرحلة السابقة، وهي المهمة التي قام بها حافظ الأسد، فما كان يعتبر ترياقا للحياة السياسية آنذاك تحول إلى داء لها، وبالتالي كان لا بد من إنهاء الفوضى السياسية المتمثلة بالحريات عبر تأميم السياسة وبالتالي تأميم الإنسان.

هنا، بدأت عملية تضخيم أيديولوجية لأهمية الاستقرار الذي شهدته البلاد والنتائج التي ترتبت عليه، في مقابل التخويف والتهويل من الفوضى السياسية التي قد تنجم عن الحريات الداخلية.

ولتعزيز مفاهيم الوحدة على حساب مفاهيم التنوع، وجد نظام البعث في الأيديولوجيا القومية ومفرداتها (السيادة، الوطنية، الصمود، المقاومة) ما يسعفه في تدجين المجتمع، إنها محاولة مدروسة لإقصاء الذاكرة الجمعية، إقصاء يجردها من الوعي بذاتها ومن هويتها.

إن علمنة السياسة تتطلب طريقين: تنازليا من خلال النخب الحاكمة التي تستشعر أهمية عدم فرض الامتثال السياسي ـ الأيديولوجي إلا في ما يحقق الخير العام المشترك للمجتمع ويساعد على النهوض به.

ولما كانت هذه النخب غير موجودة عربيا، فلا يوجد سوى الطريق التصاعدي الذي يبدأ من المجتمع، من خلال الانتفاض على البنية الأيديولوجية الفوقية المفروضة، إما بصيغ ثورية واسعة أو عن طريق المقاومة السلبية.

لكن الأمر يتطلب الارتقاء بالوعي المجتمعي، وهذه عادة ما تكون عملية بالغة الصعوبة في مجتمعات لم تعرف مخاضا سياسيا ذا صيرورة تاريخية، ولم تعرف مخاضا ثقافيا جديدا ينتج مفكرين كبارا يستطيعون أن يخترقوا مكامن الحلم لدى أفراد المجتمع.

كاتب وإعلامي سوري