قضايا وآراء

كورونا والاستقطاب السياسي في مصر

1300x600
من المعتاد أن الأخطار الكبرى توحد الشعوب وتدفع الحكام المستبدين للتقارب من شعوبهم والانفتاح على قوى المعارضة، بهدف استثمار كل الإمكانيات لمواجهة تلك الأخطار، لكن الوضع في مصر يختلف عن هذا السياق التاريخي والجغرافي، فالنظام العسكري الحاكم يعتبر نفسه الوحيد الذي يفهم في الإدارة والسياسة والاقتصاد والطب والهندسة والدين.. الخ. ألم يقل رأس النظام يوما إنه طبيب الفلاسفة، وألم يحذر الشعب يوما "اسمعوا كلامي أنا بس ولا تسمعوا كلام غيري"؟!

وهكذا حين وقعت الأزمات الكبرى، بدءا من أزمة سد النهضة التي انتهت بخسارة آخر فرصة للتفاوض في واشنطن، ومرورا بأزمة كورونا التي لا تزال تتصاعد، وحتى أزمة الإعصار حرص النظام على احتكار إدارة هذه الأزمات بمفرده، ولم يهتم باستدعاء المجتمع المدني ولا قوى المعارضة الداخلية (التي تعمل من داخل النظام ووفقا لما يتيحه لها). بل إن النظام المصري وفي إطار إطار سساسته بالتعتيم على أزمة كورونا في أيامها الأولى، شدد ملاحقاته لمن ينشر معلومات عنها تخالف الرواية الرسمية، وأصدر مجلسه الأعلى للاعلام قرارات بوقف مواقع وصفحات، كما طرد مراسلة الغارديان في القاهرة، ووجه تحذيرات للنيويورك تايمز.. الخ.

لم يكتف النظام بذلك بل سعى لاستثمار أزمة كورونا للإبقاء على حالة الانقسام المجتمعي التي صنعها ليتمكن من البقاء في الحكم لأطول فترة، وراح ينشر شائعات عن دور الإخوان في نشر فيروس كورونا، وظهرت تصريحات لوزير أوقافه مختار جمعة بهذا المعنى، مستغلا فيديو لشخص لا ينتمي للإخوان (بل هو معارض لهم) دعا فيه من يحملون الفيروس لنشره بين ضباط ومجندي الشرطة والجيش. كما صاغت أجهزته الأمنية خطابا منسوبا لمكتب الإرشاد بجماعة الإخوان يتضمن وصايا لقواعد الجماعة وكوادرها لنشر الخوف بين المصريين، وعدم الالتزام بدعوات البقاء في البيوت.. الخ، وهي توجهات تخالف ما تضمنه بيان رسمي للجماعة صدر قبل عدة أيام. ويجري تسويق البيان المكذوب بصورة كبيرة في مجموعات موالين للنظام وفي مجموعات قبطية بهدف تشويه صورة الإخوان، وتحميلهم المسؤولية عن انتشار الفيروس، وهو ادعاء (رغم ركاكته وعدم منطقيته) يجد من يصدقه خاصة في ظل حالة الخوف التي تنتاب المصريين حاليا.

في الأزمات الأخرى التي مرت بها مصر من قبل وجد النظام مساندة من داعميه ورعاته الإقليميين، أما اليوم فإنه يقف وحيدا لأن أولئك الرعاة مشغولون بأنفسهم، وليس لديهم ما يقدمونه له، وبدلا من أن يستعين بالمجتمع المدني إذا به يلاحق أي محاولة للدعم والمساندة من هذا المجتمع، لأنه يتصور أن بروز أي مجموعة مدنية حاليا سيكسبها سمعة طيبة لدى الشعب، وهو ما يعتبره خطرا عليه.

في الدول الأخرى التي مرت بأزمات مشابهة لجأت حكوماتها إلى المجتمع المدني والقوى السياسية المعارضة، وأشركتها معها في خطط المواجهة. ففي فرنسا مثلا تشاور الرئيس ماكرون مع الرئيسين السابقين رغم أن الدستور لا يلزمه بذلك، كما تشاور مع زعماء الأحزاب السياسية حول سبل مواجهة الأزمة. وفي إيطاليا حدث الشيء نفسه.

في أزمة سد النهضة كان المشهد الإثيوبي معاكسا تماما للمشهد المصري، إذ حرص رئيس الوزراء هناك على التشاور مع أحزاب وقوى المعارضة، وحين قررت حكومته رفض التوقيع على اتفاق واشنطن عللت ذلك بأنها لا تزال بحاجة للتشاور مع الشعب الإثيوبي ومع القوى السياسية، بينما لم يكلف السيسي خاطره بمجرد عقد لقاء شكلي مع رؤساء بعض الأحزاب القريبة منه، على غرار لقائه بقادة القوات المسلحة.

وهنا يحضرنا موقف الرئيس المدني الراحل الشهيد الدكتور محمد مرسي، الذي استضاف قادة الأحزاب والقوى السياسية في قصر الرئاسة للتشاور معهم في أزمة سد النهضة، في الاجتماع الشهير الذي تم بثه على التلفزيون الرسمي للدولة لإيصال رسالة وطنية واحدة للحكومة الإثيوبية.

سياسة التعتيم التي فرضها النظام حول انتشار الوباء في بداياتها، ومحاولته التخفيف منها ساهمت في نشر الشائعات التي أصابت المصريين بالهلع. بعض ما تم نشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي كان صحيحا، وهو شهادات حية من داخل المستشفيات وأماكن الحجر الصحي، وبعضها غير صحيح ، كانت أكبر الشائعات عن بلوغ عدد المصابين 20 ألفا قبل عدة أيام، وكذا شائعة فرض الطوارئ، ونزول الجيش لتنفيذها، ورغم أن الناس شاهدت صور بعض المدرعات في قلب القاهرة، ونشرت صورا لها على مواقع التواصل إلا أن السلطة نفت ذلك. ويبدو أن نشر الصور دفعها للتراجع عن خطة انتشار كانت أعدتها، لكن الطريف أن مجموعات مؤيدة للنظام صفقت لنزول الجيش بدعوى أنه لحماية الشعب، ودعت على مجموعات التواصل الناس لعدم الخوف من أصوات الطائرات التي ستقوم بتعقيم الجو ليلا.

وباختصار، فإن سياسة التعتيم التي فرضها النظام على تدفق المعلومات الصحيحة فتحت الباب واسعا للشائعات التي يدفع المجتمع كله ثمنها.

مع تزايد الضغوط على النظام للإفراج عن السجناء، أسوة ببعض الدول التي شرعت في ذلك فعلا، إنقاذا لهؤلاء السجناء من خطر حقيقي يداهمهم، سعى النظام للإفلات من هذا الحصار الدولي عبر نشر شائعات غير صحيحة عن دور خصومه السياسيين في نشر المرض كما أسلفنا، وبدلا من التحقيق في جريمة قيام أحد ضباطه بقتل مواطن سيناوي والتمثيل بجثته بصورة هزت ضمائر الملايين، فإنه حاول استغلال الحدث للإفلات من ضغوط الإفراج عن السجناء. وفي مقابل عدد محدود من المحبوسين احتياطيا الذين أطلق سراحهم (15 شخصية عامة) فقد اعتقل في الفترة ذاتها أضعافهم، كان بعضهم في طريقة لزيارة سجناء وإيصال أدوية ومستلزمات طبية للوقابة. ورغم أن الإفراج عن أي عدد من المحبوسين هو أمر مستحق، فإن النظام يبدي مقاومة كبيرة لفكرة الإفراج عن أعداد كبيرة من السجناء، لكن مواصلة الضغط عليه تبقى أمرا ضروريا، وواجبا أخلاقيا تجاه المعتقلين وخاصة السياسيين الذين لا يستحقون هذا الحبس أصلا.