كتاب عربي 21

كورونا.. شجرة تغطي الغابة

1300x600
تمر البشرية دون استثناء بتحول تدريجي عميق قد يؤثر على حياة الناس وعلاقاتهم في المستقبل. كان الجميع في غفلة يتحركون وفق منظومة واحدة تقريبا حتمتها العولمة التي لم يعد ممكنا التخلص منها ومن تداعياتها. إذ بفضل التشبيك الكلي بين جميع القطاعات والتشريعات والمؤسسات، أصبح الاقتصاد واحدا وموحدا. رحب الناس بالعولمة وشعروا بكونهم يتجهون نحو الشعور بكونهم أسرة واسعة تتركب من خمسة مليارات إنسان يعيشون فوق كوكب الأرض.

ظهر فيروس كورونا فجأة، وسلك نفس الطرق التي يسلكها المسافر، يسكن جسمه حيث ما كان، ويمتطي معه الطائرة أو القطار والسيارة. فجأة انتقل الفيروس من مدينة يوهان صينية المجهولة ليصبح بعد شهرين فقط وباء عالميا يحصد الأرواح حصدا، ويغلق المدارس والجامعات، ويهدد استقرار معظم المجتمعات، ويضرب الاقتصاد العالمي في مقتل. الجميع يشعرون بالخوف، يخشون الموت، يترقبون دورهم في الإصابة بالفيروس، ويتساءلون عن المستقبل.. كيف سيكون.

هي حرب وإن كانت من نوع خاص. اذا كانت الحروب تقودها الجيوش، فإن الكلمة اليوم للأطباء الذين يقفون بالصف الأول من جبهة القتال ضد هذا الوباء، فهم أعلم بالداء وأقدر من بقية الأطراف على مواجهته، وهم الذين يعلق عليهم الجميع آمالا عريضة للتقليل من الخسائر، وأن يتوصلوا إلى اختراع الدواء المنتظر الذي بدونه لن يهدأ الناس ولن يستقروا. حتى السياسيين تنازلوا لأهل الاختصاص عن قيادة هذه الحرب بعد أن تأخروا كثيرا في اتخاذ القرارات العاجلة والحاسمة. في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وأمريكا وحتى في ألمانيا ودول أوربية أخرى؛ يوجد جدل واسع حول مسؤولية قياداتهم السياسية في تمكين فيروس كورونا من الانتشار والفتك بالأرواح، نظرا لترددهم واستخفافهم بالوباء الجديد.

إلى جانب الأطباء، هناك أطراف أخرى بدأت تبدي رأيها؛ ليس في كيفية مواجهة الفيروس في حد ذاته، وإنما في ما وراء هذه الجائحة الخطيرة من مقدمات وتداعيات. نعني هنا المفكرين والمختصين في العلوم الإنسانية، خاصة من داخل الدول الغربية. هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم مهمشين، نادرا ما يتم الاستماع لهم بحجة كونهم يعيشون في عالم الأفكار والفرضيات النظرية. انهزم المفكرون منذ نصف قرن على الأقل أمام رجالات الاقتصاد والتكنولوجيا وقادة الجيوش، واستمر التأثير في السياسات العامة الخاصة بفرض نمط جديد للحياة الجماعية دون مشاركة. هناك إدراك من قبلهم بأن وراء ما يحدث مؤشرات على أن عالما يتجه نحو الانهيار، بعد أن فقد مشروعيته وأشر عن نهايته ولم يعد يستجيب لتطلعات الأفراد والشعوب. في المقابل، عالم جديد لم يولد بعد رغم الحاجة الشديدة له.

يمكن التأكيد اليوم على أن العولمة المفروضة من قبل قوى السوق وموازين القوى قد سقطت في الاختبار وبدأت تولد تداعيات مضادة لها، وأن النموذج الاقتصادي النيو- ليبرالي القائم على الاستهلاك والتنافس المفتوح والاحتكار والغلبة أصبح منتجا للأزمات ومصدرا لها. مع ذلك، يبحث المسؤولون على هذه الأوضاع عن انتصار ما يعيدون به الاعتبار لأنفسهم، ويؤكدون من خلاله على أحقيتهم في قيادة العالم وفق نفس الآليات والرؤية والرهانات السابقة للأزمة. كما تتسابق الحكومات الغربية فيما بينها حتى تجعل من اللقاح الجديد فرصة لتعزيز دخلها وتحسين أوضاعها الاقتصادية، وإبراز قدرتها العلمية، ورغبتها في القيادة والهيمنة. فاللقاح بالنسبة للإدارة الأمريكية على سبيل المثال ليس من أجل الإنسان سواء أكان أفريقيا أو آسيويا أو حتى أوروبيا، وإنما يجب أن يقدم للأمريكي أولا، ثم يباع بثمن باهظ لبقية سكان الأرض.. المهم أن تستمر عقلية السيادة والقوة والتفوق.

أصبح واضحا أن هذه الأزمة الصحية بدأت تضرب الاقتصاد العالمي بشكل خطير. ورغم أن فيروس كورونا لا يميز بين الفقراء والأغنياء، غير أن المعاينة السريعة كشفت عن أن الفقراء يدفعون حاليا فاتورة مضاعفة بحكم واقعهم الاجتماعي البائس. كما تخشى النقابات والحركات الاجتماعية من أن تؤدي صيغة العمل عن بُعد؛ التي لجأت إليها الكثير من المؤسسات خوفا من انتشار العدوى، إلى مرحلة وضعية جديدة من شأنها أن تقلص من فرص العمل وتفاقم من أزمة البطالة.

سيتم التحكم في الفيروس وربما التخلص منه، لكن ذلك لا يعني نهاية الأزمة، فما هو قادم قد يكون أخطر وأكثر تعقيدا. ستتعافى أجسام الناس بفضل اللقاحات القادمة، لكن النظام الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سيصبح أكثر اختناقا وقسوة. حان الوقت ليجني العالم نتائج السياسات العبثية التي أملتها مؤسسات دولية كثيرة من أجل توسيع دائرة السيطرة على ثروات الأرض، فجاء فيروس لا يُرى ليكشف حجم الفساد الذي حصل خلال قرن ونصف. ومن يعتقد بأن الناس سيتعظون مما حصل فهو واهم، وما عليه إلا أن يقرأ بعضا من كتب التاريخ.