كتاب عربي 21

التباعد الاجتماعي مستقبل الإنسان ما بعد كورونا

1300x600
قال ابن خلدون في ذات مقدمة "إن التمدن غاية البدوي يجري إليها"، وسلمنا له بأن المدينة مستقبل الإنسان حتى حلت كورونا فإذا التباعد الاجتماعي يطرح نفسه حلا لمستقبل الإنسان، فهل التباعد ضد المدينة؟ أو بصيغة أخرى، هل صارت المدينة (التجمع البشري المضخم) ماضي الإنسان والريف مستقبله؟ مدينة ضد ريف بعد مدينة تستحوذ على الريف؟ هل نسير ضد التاريخ؟ هذه بعض أفكار تفرضها المرحلة الغريبة التي يمر بها العالم، وقد صار القرب الجسدي سببا للفناء بعد أن كان سببا للبقاء.

التباعد الاجتماعي؟

أن لا يقترب الإنسان بجسده من الإنسان حقيقة علاجية فرضها وباء كورونا في عام 2020، ربما كانت هناك أوبئة أخرى قد تطلبت ذلك قبل كورونا ولم ينتبه لها الأطباء، لكن في هذه الأيام العصيبة يتكلم العالم عن التباعد، وأن لا يحصل تماس جسدي لاتقاء الوباء الذي ينتقل بالتنفس والقبل والعناق، جوهر فعل الإنسان العاطفي الذي صار وبالا عليه.

لكن هل الأمر ظرفي أم سيكون أعمق غورا من علاج عابر؟ نتفكر في التباعد الاجتماعي، فالأمر قد يتجاوز الظرفية إلى المستقبل ويطرح صورة جديدة للعالم لا تكون فيها المدن مصيرا أو قدرا، بل يعاد إلى تقدير التفرد/ الفرادة كعلاج للصحي الظرفي وللعمران جملة، فيرد على ابن خلدون بعد 600 سنة من قوله القدري "التمدن غاية البدوي".

التباعد أن يعيش الإنسان بمعزل عن الإنسان قدر الاستطاعة، فلا ينتقل بينهما ما يصيب صحتيهما بسوء. هكذا تتحول المدينة إلى بؤرة مرض، إذ العدوى بالتقارب لا بالتباعد. فأين المفر من المدينة؟ حيث تجمعت الأعمال والإدارة الحديثة ووسائل المتعة الجماعية والتي لا تعيش إلا بالجماعة البشرية (المسرح والسينما وغيرها).

التباعد متعة الطبقة الوسطى

التباعد لم يظهر كعلاج إلا مع كورونا، أما قبل ذلك فكان متعة الطبقة المرفهة (البرجوازية والبرجوازية الصغرى العليا بتصنيف جون جوراس منذ أول القرن العشرين). الطبقة الوسطى بنت المدن، أو أن المدن بنيت من أجلها منذ نهاية القرن التاسع عشر منذ اندحر الإقطاع أمام الثورة الصناعية.

ظاهرة الهجرة إلى الأرياف وتملك البيت الريفي دون الانقطاع عن المدينة تبلورت في الثمانينيات في فرنسا وفي بلدان أوروبية مختلفة، حيث بدأت هجرة معاكسة إلى السكن في الريف دون التخلي عن سكن المدينة. كان ذلك علامة تبرجز جديدة ساعد تطور وسائل التواصل (السيارة الخاصة والنت) على دفعها إلى مدى متقدم، ولكن ذلك لم يكن متاحا لعدد كبير من الناس، ولكن كل الذين يمكنهم العمل عن بعد (المحاسبون والمحامون) تملكوا بيتا ريفيا ويمارسون أعمالهم عبر النت، حتى صار من علامات رفاه الطبقة الوسطى تملك البيت الريفي، حيث المسبح والحمام الخاص واستقبال العشيقات السريات وحفل الشواء في نهاية الأسبوع (تقاليد الفلاح الأمريكي الغني) مع شكليات تربية الخيول والكلاب ورحلات الصيد المرخصة (خيال استعادة الإقطاع القديم).

في تونس (كتطبيقة فرنسية فقيرة إلى خيال إبداعي) بدأت الظاهرة مع التسعينيات، حيث انتقلت الملكيات الزراعية الصغرى المحيطة بالمدن الكبرى إلى أيد جديدة من المحامين والأطباء والمحاسبين كتطبيق/ إثبات مباشر لنظرية المحاكاة لغبريال تارد (غريم دوركهايم ومؤسس الفردانية كمنهج تحليل للسلوك الاجتماعي)، برجوازية صغيرة محلية تعيش بخيال فرنسي وتتكلم لغته وتلثغ بحرف الراء الباريسي.

كان من أعراض ذلك رفع أسعار الأرض الزراعية وتسريع نزوح المزارعين الصغار بشكل فوضوي إلى مدن كغاية في ذاتها (طبقا لنظرية ابن خلدون). حركتان متعاكستان من طبقيتين اجتماعيتين متصارعتين في مكان واحد: فقراء ينزحون وطبقة وسطى تتملك الريف على تخوم المدن، ولكن دون أن يكون ذلك لغاية طبية ولا لغاية تحضّر مختلف عن فلسفة القرن 19 الأوروبية التي لم تشذ عن قانون المدينة الصناعية المستقطبة للفقراء الطموحين إلى موقع في الطبقة الوسطى. كانت حركة في سياق أو مخيال كلاسيكي، لكن كورونا يفرض فلسفة مختلفة تجعل المدينة مكان وباء والأرياف منجاة.

التباعد أفق تحضر

الآن وبعد أن تبين أن المدن (التجمعات السكنية الكبرى/ الميقالو بوليس) تتحول إلى بؤر مرض حيث التماس البشري حركة يومية ضرورية، نسمع حديث التباعد الاجتماعي، ويقترح علينا كأفق علاجي أول للوقاية من الأمراض المنقولة بالتنفس والملامسة المباشرة (وهي مختلفة عن الأمراض المنقولة جنسيا). نتوقع أن يصير التباعد أفق عمرانيا بعد أن ينشأ ويبرر كتباعد علاجي/ طبي. كيف ذلك؟

العمل عن بعد بما يقتضيه/ بما أتاحه التطور التقني من وسائل التراسل الإلكتروني سيحدد اتجاه التطور العمراني، فتنشأ (أو تتوسع) القرى الكبيرة والمدن الصغيرة كأماكن عمل وإقامة دائمة لا تقتضي الحضور المباشر للجسد العامل على مكان العمل. تخطط القرى الكبيرة كبديل للمدن المكتظة بالبشر المتلاصق ليتم إنجاز الأعمال عن بعد دون تماس بشري، فيكون عمرانا وقائيا ويكون تحضرا جديدا.

الريف وقراه التي أقفرت وهجرت طيلة قرن سيعاد إعمارها (ستنشأ قرى أخرى ومنازل متباعدة)، وسيرفع ذلك من ثمن الأرض ويحدد اتجاه المضاربة العقارية، وسيحدد قبل ذلك طبيعة العلاقات البشرية.

خريطة جديدة للعالم ليس للمدن الكبرى فيها نفس المكانة، وليس لها نفس المغريات التي جمعت الناس فيها طيلة القرن العشرين، خاصة تحت مسمى التمدن (الهوم سينما ستعوض سهرة السينما للقرن العشرين). سيعاد النظر في قاعدة ابن خلدون، فالتمدن غاية ولكنها ليست مشروطة أو لن تكون مشروطة بسكن المدن. التمدن ستحدده التقنيات الجديدة في التواصل وصناعة الرفاه، فالكهرباء يمكن أن تصغر المدن لا أن تضخمها، والطاقة الشمسية المستقلة ستكون بديلا عن كهرباء الشبكات الموحدة. (كان هذا متاحا قبل كورونا لكن كورونا سيجعله أفق تفكير وتخطيط).

كورونا حدث عابر، ربما، لكنه سيترك أثرا بليغا الإنسان المتمدن خارج المدن. المدنية أو التحضر خارج المدن هذا أفق صحي الآن لكنه أفق عمراني قريبا، وهنا حدثت معجزة كورونا بتفريق السكان في حياتهم اليومية دون فصلهم في حياتهم العملية.

كورونا يضعنا على أبواب إعادة النظر في صورة العالم التي مدنا بها القرن التاسع عشر وما قبله حتى بداية عصر النهضة، وربما قبل ذلك من عصر التمدن الإسلامي الذي جعل ابن خلدون الحضري (المتحفظ تجاه للبدو) يجعل موت الريف والبادية مصيرا حتميا/ ضرورة وشرطا للتقدم.

نحن في القرن الواحد والعشرين، وبعد كورونا سنعيد ترتيب وجه الأرض على أسس فردانية لكن دون كسر خط التمدن التاريخي. إنه التباعد الاجتماعي لا التشتت البشري.. التباعد أفق الإنسانية بعنوان سلامتها الجسدية، ولكنه مصير جديد، وعلى ابن خلدون أن يعود ليصحح نظريته الحضرية التي كتبت تحت تأثير سنابك خيل الزحف الهلالي.