قضايا وآراء

بين ذاكرة الجلاد وذاكرة الضحية

1300x600
ما من أحد يدري ماذا يدور في خلد النظام السوري، وأنظمة القمع العربية، لمواجهة تحديات مثل انتشار وباء فيروس كورونا، فتلك آخر الهموم التي يجري التصدي لها خصوصا المتعلقة بحياة البشر في المزارع الرسمية لأنظمة الحكم. الملفت في هذا الصدد تصريح وزير صحة نظام الأسد في رد على سؤال مذيعة تلفزيون النظام عن الإجراءات التي اتخذتها وزراته بشأن اشاعات انتشار الوباء في سوريا، فقد أجاب حرفياً: "إن الجيش العربي السوري قام بتطهير البلاد من كثير من الجراثيم".

والمقصود بالجراثيم، هم أبناء المدن والأرياف الذين تعرضوا لأبشع المجازر وعمليات العدوان بمختلف أنواع الأسلحة، مع ملايين المهجرين والمشردين، وتصفية عشرة آلاف الشباب والنساء في أقبية التعذيب.

وغير بعيد عن تصريح وزير صحة نظام الأسد، انبرى إعلام السيسي منذ سنوات ما بعد الانقلاب الى وسم فئة واسعة من الشعب المصري، بنفس التسمية، وكذا فعلها القذافي وعلي عبد الله صالح، ومارسها إعلام السياسة في أبو ظبي والرياض ضد معارضي الرأي والصحفيين، وصولاً لأبناء الأسرة الواحدة وتعقبهم فرداً فرداً ووضعهم في قفص واحد.

كارثتنا نحن أشد تعقيداً وتركيباً من الهلع بفيروس طارئ، فعدا عن ضحايانا المستمرين بالسقوط، قبل اكتشاف الفيروس بعقود طويلة حتى اللحظة، فإن البعض منا أو من أبواق الأجهزة الرسمية العربية يريد أن ينسى وينسينا سيرة الجلاد الجديد المقيم بين ظهرانينا. فقضية القتل الجماعي والمجازر والقمع العربي المشترك لن يبدلها وباء يعجز أن يتفوق على آخر مستبد، في استحضار دائم لفكرة "المؤامرة" على المسرح الدموي للأوطان. فالذي يرى في الأوطان جرذانا وجراثيم وكلابا ضالة، يرى التطهير سبيلاً لإرضاء حالة الطاغية القائد والملك والأمير وولي العهد.

في الذاكرة ثمة صور ومشاهد لم تعد أسرارا، ولم تعد تُطاق حتى ممن صبروا بانتظار لحظة ضمير لم يعكسه لا التاريخ ولا الحاضر. ففي إقطاعيات العرب ومزارع الحكام ما يفضح الصورة المتفردة بألوانها وعناصرها، لا شيء عجيبا في المشهد العربي المتنقل استنساخا من دمشق إلى القاهرة والرياض وأبو ظبي إلى البحرين وضاحية بيروت، فلكل حاكم عربي زبانيته ومصفقين وهتيفة ومشايخ، يحللون استباحة الدم طالما أن الخروج عن طاعة الحاكم يُخرج من رحمة الرب، ورعاة يمنحونهم المزيد من الوقت للذبح وإنتاج بيئة تجعل من نمطية الصورة أبدية سرمدية لا نهاية لها.

يتسابق من يتشابهون في التهريج للإفادة من بعضهم، في كيفية تحويل الجمهور إلى قبيلة، وأدوات القمع التي يمكن أن توقف جرأة الشباب العربي فتضعها في سياق "العمالة للأجنبي"، ليُستحل دمهم بحجة قاعدة تفزع الغرب والشرق، واستصغار شأن وقيمة البشر، لم تدخل قاموس النظام العربي الرسمي مع اندلاع الثورات العربية، ولا مع التحديات الطارئة التي يحاول الحاكم العربي تلميع الزجاج الذي يقف خلفه. وتكسير العظام وشيّ الجثث وطحنها حرفة أنظمة القمع حتى باتت تنافس رابين في قبره، وقصف المشافي وسيارات إسعاف ومساجد ينافس أفعال نتنياهو في مأزقه الذي يشمت به نظام الممانعة، ثم تمد هذه الأنظمة بوجه الجمهور ألسنتها، مسمية شعوبها بما ينافس الأب الروحي للتطرف اليهودي غوباديا يوسف.. أية تراجيديا وكارثة هذه؟

كان المطلوب جمهورا يجلس برتابة مستنسخة، يصفق في وقت واحد لتفاهات وانحدار العرض، جمهورا من الفرجة التي تُظهر عبودية لمشخصاتي الممانعة الذي لا يجيد سوى التلويح سوى بإصبعه ومسدسه وتهريجه الذي يقطر دماً من طائراته ومدافعه وناقلات جنده وزنازينه وعصاباته وآلة قمعه، لمسح ذاكرة ضحية ستبقى تتعرف على الجلاد من بين الحطام الهائل للأوطان، ومن خلف متراس الهلع بفيروس طارىئ يتأكد كل لحظة أي وباء سيتخلص منه العربي المصاب بظلم الطاغية والمستبد.