كتاب عربي 21

العجوز وتجديد شباب أمريكا

1300x600

كان الشيوعيون العرب يرددون مقولة إن "الحجر الذي ألقى به كارل ماركس في مستنقع الرأسمالية الآسن، ما زالت دوائره تنداح وتنداح"، للتأكيد على أن الفكر الماركسي ما زال يتمدد في كل اتجاه، وكان الاندياح ذاك حادثا قبل حدوث الانزياح في العقد الأخير من القرن الماضي. 

 

ظاهرة بيرني ساندرز

استحضرت تلك المقولة وأنا أسمع وأرى بيرني ساندرز، الذي يسعى مجددا للفوز بترشيح حزبه (الديمقراطي) لمنافسة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المرتقبة.

من المؤكد أن ساندرز ألقى حجرا في مستنقع السياسة الأمريكية ستظل دوائره تنداح وتتسع موجة تتلو موجة، فبرنامجه السياسي الذي يعد فيه بإعادة النظر في أنظمة الضرائب والتعليم والعلاقات الدولية، يجد قبولا كاسحا بين شرائح سكانية مقدَّرة، ولكنه يزعج النخب التي ظلت تسيطر على مقاليد الصناعة والتجارة والمال والسياسة، لكونه أول أمريكي لا يجد حرجا في أن يوصف بالاشتراكي، بينما ظلت الاشتراكية في الثقافة الأمريكية ولعقود طويلة، صنو الشرك بالله عند المتدينين.

وما أكسب ساندرز احترام جيل الشباب الأمريكيين، أنه أول طامح في الرئاسة يعلن مرارا وتكرارا أنه يدين سياسة التوطين الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ويدعو إلى إقامة دولة فلسطينية وفق مقررات الأمم المتحدة، وعندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن مؤخرا وصفه ساندرز بأنه عنصري رجعي.

صدور ذلك عن ساندرز وهو طامح في الجلوس في البيت الأبيض، دليل شجاعة واستقامة أخلاقية وسياسية، فما من مرشح لخوض انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة كان يجسر قط على ذكر إسرائيل بسوء، أو انتقادها ولو "على خفيف"، ولكن ساندرز ألقى قفاز التحدي في وجه منظمة إيباك، التي هي القيادة القطرية للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، والتي يخطب ودها ومواردها المالية الضخمة كل من يصبو لدخول الكونغرس أو البيت الأبيض، وقد وصف ساندرز هذه المنظمة بأنها مستودع للكراهية ومناهضة الحقوق الشرعية للفلسطينيين، ويفعل ساندرز ذلك من موقع قوة، فهو يهودي، ولا يستطيع أحد ابتزازه باتهامه بمعاداة السامية.

 

خطر داهم

ولأن هناك إدراكا بأن ساندرز يشكل خطرا على "الوضع الراهن"، بدعوته إلى استحداث تغييرات جذرية في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بما يشكل خطرا على مصالح القلة التي ظلت تهيمن على كل مفصل في البلاد، فقد توافق من كانوا ينافسون ساندرز للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية على إقصائه من المنافسة، ويوم الأربعاء الموافق الرابع من آذار (مارس) الجاري أعلن الملياردير مايك بلومبيرغ انسحابه من المنافسة لصالح جو بايدن.

ما يدركه ساندرز هو أن هناك جيلا جديدا من الأمريكيين، وبالتحديد أولئك الذين بلغوا سن الرشد مع إطلالة الألفية الثالثة، لم يعد يقبل أو يستسيغ كليشيهات محترفي السياسة، فقد تفتح وعي أبناء وبنات هذا الجيل وأكبر مدينة في بلدهم تتعرض لهجوم مدمر (على برجي مركز التجارة العالمي في 2001)، ثم وجنودهم يَقتلون ويُقتلون في العراق وأفغانستان دون أن يكون البلدان مصدر خطر على الأمن الأمريكي، ثم فوجئوا برجل أخرق (ترامب) يتسنم الرئاسة في بلادهم ويزعم أن ما يقال عن التغير المناخي مجرد إشاعة أطلقها أعداء أمريكا.

 

ما أكسب ساندرز احترام جيل الشباب الأمريكيين، أنه أول طامح في الرئاسة يعلن مرارا وتكرارا أنه يدين سياسة التوطين الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ويدعو إلى إقامة دولة فلسطينية وفق مقررات الأمم المتحدة


ومن ثم كان من الطبيعي أن يضم الكونغرس الحالي ستة وعشرين نائبا أعمارهم دون الخامسة والثلاثين، كانوا جميعا نتاج الحراك الشعبي الرافض لتدخل بلادهم العسكري في مختلف القارات ولسيطرة أساطين عالم المال في وول ستريت على معظم موارد البلاد المالية، وانضموا بمئات الآلاف إلى الحركة (Black Lives Matter) المناوئة لعنصرية الشرطة الأمريكية التي ظلت تستهدف الشباب السود.

ولعل الشعبية الواسعة التي يتمتع بها بيت بوتجيج الساعي للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي له لخوض الانتخابات الرئاسية، خير دليل على أن جيل الشباب في الولايات المتحدة يحس بالقرف من الساسة التقليديين النمطيين الذين ظلوا يتصدرون المشهد لعشرات السنين، لأن بوتجيج مثلي من حيث الميول الجنسية، ويعلن ذلك على الملأ في كل منبر ومنتدى، بينما وحتى قبل عقدين من الزمان لم يكن مسموحا للمثليين بالالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية.

وقد لا يفوز ساندرز بتأييد قواعد حزبه لخوض انتخابات الرئاسة، وحتى لو فاز به فإن حظوظه بالفوز بالرئاسة ليست قوية، ولكن هذا الرجل الواقف على بوابة الثمانين دخل التاريخ سلفاً كأيقونة ألهمت جيل الشباب الرؤية لتجديد شباب بلادهم التي ظلت خاضعة منذ استقلالها لسطوة شخوص متكلسين عضويا وفكريا.