كتاب عربي 21

أين الحب من كل هذا؟

1300x600

سيدة: أعطني سيجارة!

فاطمة: العاهرات فقط من يدخنن.

فاطمة مسيرة حمام عمومي ترتاده النسوة نهارا والرجال ليلا. وهناك تلتقي النساء في جزائر تسعينيات القرن الماضي ويختلين بأنفسهن يقتسمن معاناتهن ويروين حكاياهن ويدخنّ ما تيسر من سجائر يُحظر عليهن تدخينها علنا في الشارع أو داخل بيوتهن. والحوار من فيلم (في مثل هذا العمر لا زلت أختبئ لتدخين سيجارة ـ 2017) للمخرجة الجزائرية ريحانة أوبرماير.

التدخين في البلدان العربية ضرر بالصحة عند الرجال، وهو عند النساء قلة أدب وانحلال أخلاقي. وفي تقارير صحفية نشرت مؤخرا، احتفاء من دوائر غربية بـ"الحرية" الجديدة التي هلّت على نساء العربية السعودية، حيث صار بإمكان السعوديات التدخين علنا في المقاهي جنبا إلى جنب مع رجال، ربما يتحفظون حتى الآن مما تراه أعينهم، لكنهم قابلين بالوضع الجديد فهو من توجيهات ورؤية وهندسة ولي ولي الأمر. 

في السعودية، ما لا يقل عن ستة ملايين مدخن وتجارة سجائر بأكثر من ملياري دولار أمريكي حسب إحصائيات تعود لخمس سنوات. وبينما يتجه منحى التعاطي في دول الغرب إلى الانخفاض، لا يجد نفس الغرب غير التهليل بحرية المرأة السعودية في التدخين دونما اكتراث بالجوانب الصحية للموضوع. أما في فرنسا، التي تبلغ فيها نسبة التدخين 25 بالمائة، أقلع نحو مليون شخص عن السجائر في العامين 2016 و2017 وهو ما عُدّ انتصارا كبيرا لسياسة صحية حكومية غير قابلة للتصدير. القابل للتصدير قشور "حرية" مفترضة لا تجد غير التدخين أو تعاطي الكحوليات أو غيرها من المثالب رموزا للتقليد.

 

في السعودية، ما لا يقل عن ستة ملايين مدخن وتجارة سجائر بأكثر من ملياري دولار أمريكي حسب إحصائيات تعود لخمس سنوات.


في السعودية التي احتلت الرتبة 141 من 144 دولة، بحسب التقرير العالمي للفوارق بين الجنسين لسنة 2017، تقبع نساء، ومعهن رجال طبعا، في غياهب المعتقلات دون محاكمات أو وفق أحكام مشكوك في انتصارها للعدالة، لكن اهتمام الإعلام العالمي منصب، في غالبه، على ذكر مناقب التوجه الجديد للمملكة، كما فعلوا في السابق مع دول أخرى لا تقل شراسة وانغلاقا على مستوى الحريات، والتركيز مسلط على تخفيف القيود المفروضة على النساء في العمل وحرية التنقل والحق في الزواج والاختلاط وغيرها. 

هي حقوق آدمية وإنسانية يحق للسعوديات، كما الفرنسيات والفيتناميات وبقية نساء العالم، التمتع بها دون استثناء أو تمييز لا ريب. لكنها ليست لوحدها ما يمكنه الدفع بالمرأة إلى التحرر والانعتاق. 

الحرية مصطلح جامع لا يقبل التجزيء وفق سياسات النظام العالمي وأهواء الحكام المستبدين. تجاوز "الخطوط الحمراء" حق يتم اكتسابه بالنضال. لكنه في ممالك الاستبداد "نضال" يحتاج موافقة "ولي الأمر" أو من ينوب عنه، وإلا فالسجن هو المآل والاعتقال هو المصير للانتهاء بين أيدي جلادين ومغتصبين من السجانين والمستشارين المقربين.

تقول إحصاءات صادرة عن منظمة الصحة العالمية إن سبعة ملايين شخص يموتون سنوياً بسبب التدخين المباشر، بالإضافة إلى 800 ألف من ضحايا التدخين السلبي. لكن تجارة الموت في بلدان الهامش، والعرب في قلبها، تجارة مزدهرة بالبراميل المتفجرة والسيارات المفخخة والطائرات المسيرة وغيرها من وسائل الدمار. فما المانع من أن يحصد القتل البطيء أرواحا أخرى بالآلاف.

فيلم (في مثل هذا العمر لا زلت أختبئ لتدخين سيجارة)

صوت خارج الصورة: إسمي سامية بن لخضر المجاهد. عمري 29 سنة ونصف ولا أزال عزباء. أنا مختلفة عن والدتي فأنا لا أؤذي نفسي عندما أكون حزينة. أفضل الصعود إلى سطح بيتنا والتطلع إلى البحر. عائلتي تمنعني من الصعود إلى السطح دونما سبب. يقولون: ماذا سيقول الجيران؟ لأجل هذا كنت أعشق غسل الملابس لأنني كنت من يُكلف بنشرها. لا الجيران وقتها سيتساءلون وسيهنأ بال والدتي. أما أنا فسأواصل أحلامي مع البحر... من سطح بيتنا أتطلع للأسطح المجاورة، حيث تنشر النساء الغسيل مثلي تماما (نسمع زغاريد) لقد عادت المياه بعد فترة انقطاع. كلما عادت المياه تنطلق الزغاريد. الماء ليس ما ينقصنا فحسب. الخصاص يشمل القهوة والزيت والسكر والبطاطا والحب.. الحب على وجه الخصوص.

لا شك أن المرأة العربية تعاني من قهر مجتمعي كبير تبدأ تفاصيله من البيت لتتواصل حلقاته في الشارع ومكان العمل وغيره من الفضاءات العامة التي لا تتحول فيها المرأة إلى مجرد جسد يتبارى الذكور على افتراسه والسعي للظفر والفوز به ترغيبا أو ترهيبا. ليس الأمر، في واقع الحال، في كثير من البلدان الغربية التي تصدر صورة وردية عن وضع النساء فيها، وهي أبعد ما تكون عن تحقيق المساواة أو حماية النساء من الاستغلال والعنف والترهيب. 

في فرنسا، مرة أخرى، وهي التي دأبت على تقديم الدروس للبلدان الإسلامية على الخصوص، تسقط امرأة كل ثلاثة أيام صريعة اعتداء بيد أزواج أو شركاء حاليين أو سابقين إذ تسجل الأرقام 130 ضحية سنويا، من بين أكثر من 200 ألف اعتداء جسدي أو جنسي. ورغم الترسانة القانونية الكبيرة وكل محاولات التمكين للنساء مهنيا وسياسيا، لا يزال النزيف. أما في بلداننا، فالقوانين معطلة والذكورية منتشرة اعتقادا وممارسة والوعي بالحقوق لدى الغالبية من النساء ضعيفا، وهو ما يجعل الصورة تبدو أكثر قتامة. لكنها في الواقع ليست استثناء. الذهنية العربية لا تزال عند المرأة والرجل محتفظة بصورة "مثالية" للمرأة "الجيدة" التي تحاول النساء "أنمذجتها" ويبذل الرجال قصارى الجهد للـ "فوز" بها.

عودة إلى فيلم (في مثل هذا العمر لا زلت أختبئ لتدخين سيجارة)

داخل الحمام انقطعت الكهرباء. وعلى ضوء الشموع ينطلق مسلسل البوح..

إمرأة: سامية. لا تقولي إنك ستتزوجين رجلا لا تعرفينه؟ ماذا عن الحب؟

سامية: أمتلك الوصفة لذلك.

إمرأة: الوصفة؟

سامية: نعم. سأستيقظ كل يوم باكرا، أحضر الحليب والقهوة، وأدهن الحلوى بالعسل. أوقظ زوجي بحنان، أساعده في اللباس، أوصله حتى الباب وألبسه المعطف قبل أن يغادر إلى العمل. أغسل الأواني، أنظف الأرض، أغسل الملابس، أطهو الخبز وأحضر العشاء. لن أحضر إلا الأطعمة التي يحبها. آخذ حماما، أربط شعري إلى الخلف، أتطيب وأنتظر عودته أمام التلفاز. عندما أسمع خطواته على السلالم سأقرص خدودي.

إمرأة: ولماذا تقرصين خدودك؟

سامية: لكي يصيرا محمرين. أفتح له الباب، أخلع عنه المعطف وأوصله إلى الحمام. أنشفه وأعطيه البيجاما.

إمرأة: مسكين.. ولِمَ لا تلبسيه إياها؟

سامية: لن يكفيني الوقت لأنني سأسخن الأكل. سننهي العشاء قبل بداية نشرة الأخبار. الرجال يحبون سماع الأخبار. أليس كذلك؟

إمرأة: وماذا بعد؟

سامية: بعدها أذهب إلى غرفة النوم، ألبس لباسا شفافا، أسدل شعري، أدخل الفراش وأسعل بخفة.

إمرأة: تسعلين؟

سامية: لكي يسمعني ويلتحق بي. أتركه يتمدد جنبي لفترة ثم أسعل..

إمرأة: مجددا؟

سامية: ....

إمرأة: والحب؟ أين الحب من كل هذا؟

سامية: أنا سأكون محبة له أصلا. حرام أن تتمنع المرأة على رجلها.. هذا مذكور في القرآن. كم أحب هذه الآية.

حكايات ألف ليلة وليلة كما يتخيلها الرجال، وتربية تقليدية تجعل البنات مجرد آلات للعمل بالبيت ودمى لتلبية الرغبات الجنسية في السرير.. واقع معيش لم يستطع الانفتاح ولا محاولات العصرنة ولا ظروف الحياة المتغيرة أن تمحوها من المخيال الجمعي. كل ما يحدث إعادة إنتاج في صيغ جديدة ربما تبدو براقة لكنها في الجوهر صورة طبق الأصل تتناقلها الأجيال.

 

المرأة العربية تعاني من قهر مجتمعي كبير تبدأ تفاصيله من البيت لتتواصل حلقاته في الشارع ومكان العمل وغيره من الفضاءات العامة التي لا تتحول فيها المرأة إلى مجرد جسد يتبارى الذكور على افتراسه والسعي للظفر والفوز به ترغيبا أو ترهيبا.

 
عندما أدت مغنية راب سعودية قطعة سمتها "بنت مكة" تعدد فيها مناقب بنات مكة كما تراها، وهي التي طمعت في فضاء بوح أرحب من الغرف المغلقة للنساء، واجهت سيلا من التنمر والعنصرية بدعوى الخروج عن التقاليد المرعية لمجتمع "محافظ" لم ير في وفود المطربات والمطربين من مختلف الأصقاع، وهم يتوافدون على مدن الحجاز، ما يسيء للتقاليد ولا لرمزية المكان. 

وبينما كان منتظرا من الدولة، الراعية لزمن الترفيه بديلا عن زمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الانتفاض لحماية توجهاتها الجديدة، لم تجد غير الأمر باعتقال المطربة ومن ساهم معها في تصوير الأغنية باعتبارها "تسيء لعادات وتقاليد أهالي مكة ويتنافى مع هوية وتقاليد أبنائها الرفيعة".

صايل مجرد فتاة سعودية "سمراء" لا ترقى للحلم بلامبورغيني أو فيراري أو ساعات ثمينة للاسترضاء، أو على الأقل قبلات على الجبين يطبعها الأمراء أمام مرأى ومسمع العالمين.

الحرية هي الأصل. لكن الحرية لم تكن يوما في اتجاه واحد بل هي مفتوحة على كل الاتجاهات ما دامت تمارس في احترام للقوانين والأنظمة المعبرة عن رأي الناس. في بلدان الاستبداد لا يساهم الناس في صياغة واعتماد القوانين. وفي البلدان الغربية يحاولون تطويع القوانين وفق رؤية هوياتية تمنع الاختلاف. ورغم كل ما سبق تظل الحرية هي الأساس، وللجميع الحق في ممارستها دون إقصاء أو استثناء.

في (فيلم بابيشا ـ 2019) للمخرجة الجزائرية مونية مدور، وهو فيلم يتخذ من الجزائر فترة التسعينات مسرحا لأحداثه، تنتشر الملصقات على الحيطان وتتناسل:
 
الملصقات: أختي المسلمة اتبعي الشريعة. إن لم تغار على نفسك، نحن نغار عليك. إن كنت لا تهتمين لصورتك فسوف نعتني بك.

وفي فيلم (الضيف ـ 2019) للمخرج هادي الباجوري وتأليف إبراهيم عيسى، تعلن فريدة، ابنة الكاتب الليبرالي الكبير يحيى، أنها ستلبس الحجاب. ترتسم الدهشة على محيا يحيى وزوجته مارلين. يحيى الذي ربى ابنته على الحرية ودعا إليها في كتبه وبرامجه التلفزيونية، يرى أن الحرية في اعتناق ما يدعو إليه. في الليلة التي يتعرف فيها على صديق ابنته "السلفي الإرهابي" أسامة، يكتشف يحيى أنه أهمل في "تربية" ابنته على منهجه و"دينه" الجديد، أو هكذا يعتقد على الأقل.

في حوار جانبي بين الأم والبنت، تفسير جديد لمفهوم الحرية.

مارلين: أنا عارفة إيه إيلي شدك لأسامة. أنت عاوزة تقولي لأبوكي أنا مختلفة عنك. أنا مش حأبقى صورة من أمي إيلي بقت صورة مصغرة منك.

فريدة: لأ.. مش كده خالص. أنا مش طايقة حمل الحرية إيلي انتو مديينها ليا.. شوفي عقلك بيقول ايه يا فريدة. شغلي مخك يا فريدة. أنا بقا مش عايزة أشغل مخي.. عايزة أبقى مع حد شخصيتو قوية. مين قال إن الانسان لما يعيش حر حيبقى مرتاح؟