أخبار ثقافية

انشقاقات اللوثرية: الأناباتيست وأنبياء زويكو

مارتن لوثر - جيتي
بينما كان الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر يشق طريقه في الجغرافية الأوروبية على مستوى العامة وعلى مستوى الأمراء السياسيين، كان يتعرض بالمقابل لانشقاقات كثيرة، إما نتيجة خلافات عقيدية أو نتيجة محاولة البعض تجاوز فكر لوثر والتوجه به نحو غايته الراديكالية.

في عام 1524 اندلعت ثورة الفلاحين في ألمانيا ضد طغيان البابوية واستنزافها الاقتصادي للفلاحين باسم العقيدة المسيحية ومتطلبات الخلاص.

غير أن هذه الثورة سرعان ما تحولت إلى ثورة دينية راديكالية بعد دخول توماس مونتسر (1489- 1525) على الخط.

مونتسر والأناباتيست

لم تمض سنوات قليلة على إنطلاق إصلاح لوثر، حتى نشأت أصوات داخل اللوثرية طالبت بتغيير اتجاه الإصلاح على مستوى العقيدة الدينية وعلى مستوى العلاقة بين الديني والسياسي.

اندلعت الخلافات في ويتنبرغ عام 1521 بين اللوثرين وأتباع كارلشتات، وكذلك مع مجموعة وصفها لوثر بتهكم أنبياء زويكو (نيكولاس ستورش، توماس دركسيل، ماركوس تومي ستبنر) من مدينة زويكو في ساكسونيا بألمانيا.

احتفلت جماعة أندور بودنشتاين الشهير باسم كارلشتات بأول قداس عشاء رباني بروتستانتي حقيقي، فتلاقوا مع أنبياء زويكو وتوماس مونتسر.

هاجم هؤلاء لوثر وجماعته في مسألتين:

ـ ادعاء لوثر أن الله لم يعد يكشف عن أسراره المقدسة لأصدقائه المحبوبين عبر رؤى صريحة أو كلمة مسموعة.

ـ تواطئ لوثر مع السلطات المدنية التي رفضت القيام بحملة دينية للقضاء على الكفار.

كانت القطيعة بين هؤلاء ولوثر قوية جدا، لدرجة محاولة مونتسر تأسيس كنيسة الروح الجديدة في أليشتيد مقابل الكنيسة اللوثرية.

لم يكتف مونتسر بذلك، بل قام بتأسيس عصابة سرية مهمتها نهب الكنائس والأديرة وحض الناس على عصيان الكنيسة بالامتناع عن دفع الضرائب.

خطورة مونتسر أنه كان راديكاليا على المستوى الديني والسياسي معا، فقد كان يعتقد أن الظروف الحياتية القاسية التي يعيشها الناس تمنعهم من فهم الكتاب المقدس، وبالتالي لا بد من ثورة اجتماعية تسبق الثورة الدينية.

في هذه المرحلة، قامت جماعة تعرف باسم الأناباتيست / الأنبياء السماويين (منكري معمودية الأطفال)، وما يزال الباحثون يختلفون إلى الآن حول أصل نشأتها، بين من يقول في زيوريخ وبين من يقول في جنوب ألمانيا، ولكن جميعهم يرجعون إرهاصاتها الأولى إلى توماس مونتسر.

انتشرت هذه الجماعة بسرعة في عدة مناطق (سويسرا، بافاريا، سيليسيا، سوابيا، أوغسبورغ، ستراسبورغ، مورافيا)، وقامت بإعادة العماد للمسيحيين الراشدين على اعتبار أنها ترفض تعميد الأطفال، ولهذا بدأت تتعرض للاضطهاد على يد أورليك زونجلي (1484- 1531).

وقد تعرضت الجماعة لأقسى أنواع التعذيب بعدما قرر لوثر وميلانكثون وزونجلي تغيير أفكارهم المتسامحة حول الهراطقة واعتماد أقسى العنف، لكن الأناباتيستيين أثبتوا قدرة هائلة على تحمل العذاب بعزيمة ترفض التراجع، إلى حد دفع جوزيف لوكلير للتساؤل حول الروح التي ألهمتهم، هل هو تعصب مونتسر الثوري أم نزعة الأناباتيست السلامية؟

بكل الأحول، شهدت بداية الثلاثينيات من القرن السادس عشر تحولا في سلوك الأناباتيست لدى القادة الجدد، وفي مقدمهم ملخيور هوفمان الذي ادعى أنه النبي إيليا الثاني، وهكذا تحولت مدينة مونتسر في ويستفاليا إلى مكان للهياج العام.

في عام 1534 جرت عمليات إعادة العماد، وتم تحويل اختيار المدينة كأورشليم الجديدة بدلا من ستراسبورغ التي كانت معقلا للأناباتيست.

وسرعان مع قامت الأناباتيست بانقلاب ثوري أطاح مجلس المدينة وطرد كل من يخالفهم، مع تأسيس شيوعية في الممتلكات، وهكذا تظهر الدوافع الدينية مع الدوافع الاجتماعية في فكر هذه الجماعة، كما كان الحال لدى قادتها الأوائل (توماس مونتسر).

مدعوما من السلطات المدنية، قام أسقف مدينة مونتسر المطرود بحصار المدينة، قبل أن ينجح باقتحامها في يونيو من عام 1535 ويلقي القبض على الأناباتيست ويقوم بتعذيبهم لأشهر طويلة.

أورليك زونجلي

فيما كان زونجلي يلتقي مع أنبياء زويكو ومونتسر وكارلشتات على رمزية المناولة خلافا لحرفيتها كما في العشاء السري، (جسد المسيح ودمه غير حاضرين في المناولة)، فإنه يلتقي مع لوثر في مسألة خضوع الديني للسياسي.

بل يمكن القول، إن زونجلي كان على يمين لوثر الذي لم يعط صلاحيات كبيرة للسلطة الزمنية/ السياسية، مقارنة بزونجلي الذي منحهم سلطات واسعة، حيث كان يرى أن هذه السلطات الواسعة للأمراء تمنحهم القدرة على إدارة الإصلاح الديني.

توحدت الجماعة المسيحية مع الجماعة المدنية في جمهورية زونجلي بزيوريخ، إنها عودة إلى المثال اليهودي القديم، وفي هذا يشبه إصلاح زونجلي إلى حد كبير إصلاح كالفن، من خلال صهر الدولة والمجتمع في بوتقة واحدة.

إن هذه النظرية تفسر دعوة زونجلي إلى مصادرة الأديرة وتحويلها إلى وظائف دنيوية مثل المشافي والملاجئ للعجزة.

لقد كانت هذه الخطوة بمثابة البذور العملية نحو العلمنة دون أن يقصد، وإن جاءت لأسباب دينية لا دنيوية.

ومع تماهي الديني والسياسي، إلا أن زونجلي أعطى الغلبة للسلطة الدينية، حيث يقول:

إن لم يكن من حق النبي أن يتنازل
للحـاكم عـن شــيء فـي الشــؤون
الدينية، ولا من حق الأمير أن يتنازل
للنبي، فـإن الأولـوية تبقـى للنبــي.

صوفية روحية

إن تحرير اللوثرية الأرواح والعقول من طغيان الكنسية وطغيان الأمير الإنجيلي، جعلهم يرفضون أية وصاية خارجية، دينية كانت أم سياسية، ليبحثوا عن المعنى والخلاص في الذات الفردانية.

ضمن هذا السياق الفكري والروحي، نشأت حركة صوفية روحية معادية للوثر بقيادة سيباستيان فرانك (1499- 1542) وغاسبار شفنكفيلد (1489- 1561).

لعبة أمور عدة في نشوء هذه الحركة الصوفية: 

ـ نزاع لوثر مع إراسم حول موضوع حرية الاختيار.
ـ النتائج المرعبة لحرب الفلاحين.
ـ إخفاق الإصلاح على المستوى الخلقي بسبب عقيدة لوثر "الخلاص بالإيمان وحده دون الأعمال".

وجدت الحركة الصوفية في اللوثرية بداية الأمر، حركة إصلاحية تسعى إلى تحرير المسيحي من هيمنة المؤسسة الدينية، لكن عودة لوثر مباشرة للكتاب المقدس واعتباره أن كل إنسان يستطيع تفسيره، دفع الكثيرين إلى الاعتراض.

تعمق الخلاف بين الصوفية ولوثر في قضيتين رئيسيتين: الأولى علاقة العهد الجديد بالعهد القديم، والثانية مسألة الأفخاريستا/ العشاء السري.

بالنسبة للمسألة الأولى، رفض الصوفية المزج بين موسى والمسيح، أي رفض العودة إلى العهد القديم واستعمال الشريعة اليهودية لتبرير فعل الإكراه الذي تمارسه السلطة المدنية بهدف توحيد العقيدة.

وقال شفنكفيلد في ذلك:

يخطئ كثيرا الــذين ينصحـون الـدولة
بـأن تتولـى مــراقبة الأمــور الـدينيـة،
وتلجـأ إلـى الممارسات اليهودية في
محاولتها حكم العالم بحسب الإنجيل
وتستعين بالقــوى المسلحـة لـدعــم 
مخططهـا فـي إلغاء طقوس العبـادة.
قد تكـون الدولة مسيحية رسميا لكن 
ذلك لا يــوجب بسط سيطرتهــا علـى 
الكنيسة، فــالدولة المسيحية دولـــة 
حديثة لم يأت بولس على ذكرها.

بالنسبة للمسألة الثانية، انكرت الصوفية الروحية عقيدة التواجد الجوهري، أي الحضور التزامني لجسد المسيح ودمه الحقيقيين في أعراض الخبز والخمر في القربان، ولا يعترف سوى بحضور روحي صرف في الأفخاريستا.

لقد شدد على طبيعة الدين غير المنظور ورفض تفسيرات لوثر ذات النزعة البشرية للكتاب المقدس، ففي حين كان لوثر وجماعته يؤكدون على تحديد الكنيسة الحقيقية بأنها تشمل كل المسيحيين الذين يستطيعون تلقي الأسرار، كانت الصوفية ترتعش من هذا الرأي، لأنه يؤدي إلى إطلاق اسم الكنيسة على تجمعات متنافرة تختلط فيها النعاج بالجداء اختلاط الصالحين بالطالحين.
في هذا كتب فرانك:

ليــست المسيحيـة طائفـة ولا نظامـا ولا
قانونا أرضيا، بل هي إيمان حر ومستقيم
يعمل بالمحبة، لــذا وهب لنـا كل شــيء 
في عهد الروح الجديد.
إن الله يريدنــا أحـرارا حتى تجاه شريعته
الخاصة.

اهتمت الصوفية الروحية بالروح القدس أكثر من اهتمامها بالكتاب المقدس، لذلك تحدث فرانك وشفنكفيلد كثيرا عن حرية الضمير، فميز الأخير بين الضمير الصالح والضمير الفاسد، والأخير هو الضمير الخاطئ، أي ضمير الإنسان الجسدي الذي يتحول إلى ضمير صالح عندما يتطهر بدم المسيح ويتجدد بالروح، وهذا الفهم للضمير المخالف للوثر، جعل شفنكفيلد يتسامح مع الأناباتيست كونهم لم ينزلقوا نحو الصراع المسلح.