كتاب عربي 21

مناخ انعدام الثقة يهيمن على تشكيل حكومة الفخفاخ

1300x600
  1. يتحرك رئيس الحكومة المكلف السيد إلياس الفخفاخ في مناخ من انعدام الثقة بين الأحزاب والمنظمات، لذلك يبدو ميلاد حكومته متعسرا، بل إن احتمال سقوطها غير مستبعد.

    مناخ انعدام الثقة هو ثمرة مناورات تشكيل الحكومة الأولى (حكومة السيد الحبيب الجملي) التي سقطت، وهو قبل ذلك ثمرة الصراعات الأيديولوجية ذات الطبيعة الاستئصالية التي توجه غالب العمل السياسي في تونس منذ الثورة. هذه المناخات تحكم المشهد السياسي برمته، وتحكم الآن على مسار تشكيل الحكومة، ولا نستبعد أن تدفع إلى العودة إلى الصندوق الانتخابي من جديد، بما يؤجل كل العمل الحكومي الذي يطمح الشعب أن يراه ويستفيد منه للخروج من أزمة اقتصادية طاحنة زادها الاضطراب الأمني حدة.

    حزب القروي (قلب تونس) في قلب معركة التشكيل

    أعلن السيد الفخفاخ منذ البداية نيته في استبعاد حزبين من التشكيل القادم، هما حزب قلب تونس وحزب عبير موسي، متخذا من الإجماع حول الرئيس في الدور الثاني من الرئاسية قاعدة حكم. وإذا كان كل الأحزاب متفقة على استبعاد حزب عبير (14 نائبا)، فإنها اختلفت حول حزب القروي (38 نائبا)، وظهر الاختلاف في موقف حزب النهضة الذي أصر على إدماجه تحت يافطة حكومة وحدة وطنية، بعد عقد مجلس شوراه وتلويحه بإعادة الانتخابات.

    رفض حزب القروي برره الفخفاخ بالاختلاف حول برنامج الحكومة، فالمبادئ الكبرى التي جمعت الناس حول قيس سعيد (حوالي ثلاثة ملايين صوت) مخالفة لقاعدة التصويت للقروي، وبالتالي فإن حزب القروي يكون آليا ضد برنامج حكومة الفخفاخ. اختفت هنا تهم الفساد الموجهة للقروي وبرزت الخلافات السياسية حول البرنامج المستقبلي، بما جعل حزب التيار وحزب حركة الشعب يسارعان إلى إعلان المشاركة، رغم أنهما لطالما نعتا الشاهد وحزبه (تحيا تونس) وخاصة إبان الحملة الانتخابية؛ بالفساد. لقد لحس الجميع الخطاب الانتخابي التطهري وبدوا مستعجلين على الدخول في الحكومة، حتى أنهم قالوا خيرا في حزب القروي، حاصرين الفساد في رئيسه وتاركين للقضاء فصل القول فيه.

    حزب النهضة يعود إلى نقطة الانطلاق

    في لحظة بدا فيها أن كل المشاكل قد حلت وأن لحظة ميلاد الحكومة قريبة، رجعت النهضة إلى فكرة الحكومة الوطنية بإشراك حزب القروي، بل ذهبت إلى التهديد بانتخابات مبكرة ملوحة بإسقاط حكومة الفخفاخ كما سقطت حكومة الجملي. فهل غيرت النهضة تكتيكها في هذه المرحلة ولماذا؟

    يقرأ موقف النهضة الحريص على إدماج القروي بمعان كثيرة، بعضها سياسي عملي وبعضها سياسي رمزي.

    هو موقف في ما يبدو يذهب أبعد من تشكيل الحكومة الحالية، فتشكيلها وتدبير 109 نواب للمصادقة مرحلة قصيرة، أما ثباتها لمدة خمس سنوات فمرحلة أهم وأطول، ولذلك فإن وضع كتلة نيابية بحجم القروي والدستوري الحر ضدها قبل انطلاقها، فيهدد وجودها ونجاحها. إن إيكال مقعد المعارضة إلى كتلة تفوق 50 نائبا (القروي وموسي)، فضلا عن نواب آخرين، يجعل الثلث المعطل أقوى من أنصار الحكومة، فضلا على أنه سيسمح بمكان لحزب عبير ضمن المعارضة، بما يوسع لها ويشرع لخطابها (المظلومية الجديدة).

    ضمان إدماج حزب القروي في الحكومة يضمن أو على الأقل يحيّد تصويت كتلته عندما يحل موعد استكمال بقية المؤسسات الدستورية، وخاصة تنصيب المحكمة الدستورية، فضلا عن تعديل القانون الانتخابي الذي تقدم حزب النهضة بمقترحات تعديله وفرض عتبة انتخابية بـ5 في المئة.

    أما على المستوى الرمزي، فإن العمل مع القروي سينهي خطاب التطهر الثوري. فقد تبين من مناورات إسقاط حكومة الجملي أن الثوريين سارعوا إلى التحالف معه ولحس خطاب التعفف، وشاركوه الإعلان عن كتلة جديدة ضد حزب النهضة، لكنهم عادوا من جديد إلى اتهامه بالفساد. إن إشراك القروي في الحكومة ينهي سردية أحزاب ثورية (التيار والشعب) ضد أحزاب فاسدة (قلب تونس والنهضة)؛ سردية تبين زيفها في مناورات ما بعد حكومة الجملي.

    فضلا عن ذلك، فإن إشراكه في الحكومة سيكون له فيها نصيب على حسابهم، خاصة إذا التزم الفخفاخ بتوزيع المقاعد بحسب الحجم النيابي في البرلمان. فكل وزارة للقروي ستسحب من رصيدهم في الحكومة لا من رصيد النهضة، مما يحجم غرورهم ويعيدهم إلى حجمهم الحقيقي دون خطاب ثوري.

    المسكوت عنه في تشكيل الحكومة

    ظاهر الخطاب نقاش سياسي في التشكيل والبرنامج، أما باطنه فيغلف بصمت مريب. الثقة منعدمة بين مكونات المشهد، ولا نراها تبنى بخطاب حسن النية في وسائل الإعلام. هناك جسور كثيرة مكسورة بين الأحزاب والشخصيات لا نرى الفخفاخ قادرا على تجسيرها حتى الآن على الأقل.

    إن صمت الأحزاب في البرلمان وفي الشارع على خطاب عبير موسي الذي عبر عن نفسه بعريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان (الغنوشي) لا يطمئن النهضة. ووجود هؤلاء جميعا في الحكومة ليس ضمانة لكي لا يختلفوا في البرلمان ويتبنوا خطاب عبير تحت حجة أن عمل الحكومة منفصل عن ترتيب وضع البرلمان، لذلك فإن تحييد كتلة القروي يصبح نوعا من الضمانة لبقاء الغنوشي في مكانه.

    الانقلاب في الموقف من القروي (خاصة خطاب الشعب والتيار) حدث بسرعة مريبة ترفع مستويات الشك لدى حزب النهضة، فقد تبين أن المبدئية قصيرة النفس. ويمكن في أجواء عدم الثقة السائدة أن ينقلب الموقف أكثر فتسحب الثقة من حكومة فيها النهضة لتعاد التحالفات مع القروي في وقت قصير، فتجد النهضة نفسها خارج الحكومة القادمة، فتكون في موقف ضعيف لا يمكن للفخفاخ أن يضمن فيه سلامة حزب النهضة. ولذلك فإن إدماج القروي يقطع الطريق على مناورة مماثلة بعد شهور قليلة.

    من المسكوت عنه والذي لا تريد الأحزاب التسليم به أن النهضة ماضية في خطة تفكيك المنظومة باحتواء بعضها دون البعض، كما فعلت مع حزب النداء فأنهت وجوده. وإدماج القروي كجزء من هذه المنظومة يقطع الطريق على أي تحالف مع حزب عبير المكون الاستئصالي الواضح في المنظومة، خاصة أن مكونات حزب القروي ليست منسجمة حول برنامج سياسي وتخترقها آراء متناقضة حول المستقبل، بما يسهل تفكيكها حتى داخل البرلمان.

    من المسكوت عنه أيضا أن إلحاق القروي بالحكومة يعطي مقعد المعارضة آليا لحزب الائتلاف حليف النهضة. إذ يكون هو الكتلة الأكبر خارج الحكومة (الائتلاف يرفض المشاركة في حكومة فيها القروي)، وهذا يعني حرمان حزب عبير من موقع قيادة المعارضة. بذلك تضمن النهضة حرمان حزب عبير من كل موقع مؤثر فلا يبقى لها إلا الصراخ في البرلمان. من جانب آخر، فإن إيكال مقعد المعارضة لحزب الائتلاف يقويه في المستقبل، وهو ما لا يرغب فيه شركاء الفخفاخ في الحكومة (فمقعد المعارضة منتج للشعبية على المدى المتوسط والبعيد).

    وهكذا نصل إلى مشهد ملغوم من كل النواحي فلا أحد يثق في أحد، ولا أحد يريد لأحد أن يغنم سياسيا من الحكم. وفي هذه الأجواء لا يجد الفخفاخ طرقا سالكة رغم وجود خيّرين يعملون في الظل ويجسرون الأخاديد بين الأحزاب. فهل ينجح الفخفاخ في بناء حكومته وبدء العمل؟

    الأمر ليس بالأماني لكن الجميع خائف من إعادة الانتخابات، وهي الورقة التي لوحت بها النهضة في مجلس الشورى، فكأنها رفعت سيف ديمقليطس فوق الرؤوس المرعوبة من فقدان مواقعها. وستكون هذه الورقة أقوى لو تمت المصادقة على مقترح تعديل القانون الانتخابي كما تقدمت به النهضة، أي بفرض العتبة، ونرجح أن تقبل الكتل تمرير القانون مقابل عدم العودة إلى الصندوق خلال الشهور القليلة القادمة، خاصة أن انتخابات بلدية جزئية تمت يوم 26 كانون الثاني/ يناير كشفت حالة إعراض كبيرة عن التصويت، إلا ناخبي النهضة الذين كشفوا مرة أخرى تماسكهم الدائم في مواعيد الانتخاب.