قضايا وآراء

هل يُنقذُ اللّيبيُون وطنَهم؟

1300x600
تبدو ليبيا اليومَ ساحة حرب وتصارع بين مجمل القوى الدولية والإقليمية، كما تُقدم حالة خاصة عن صراع الإخوة الأعداء. فمنذ سقوط نظام "معمر القذافي" عام 2011، والأزمة الليبية تزداد تفاقما، وسُبل الحل تتراجع وتتعقد باستمرار، ولا يبدو في الزمن المنظور أن هناك حظوظاً فعلية للخروج من الزقاق.

يَكمنُ الطابع المركب للمسالة الليبية في أكثر من جانب ومستوى. فمن جهة، حصل انشطار بين شرق البلاد وغربها منذ السنوات الأولى التي أعقبت سقوط النظام وتولدت في أعقاب ذلك شرعيتان تبدوان متناحرتين، هما: شرعية العاصمة طرابلس، بمؤسساتها البرلمانية والحكومية، وإلى حد ما الجيش الوطني، المعززة بالاعتراف الدولي من قبل الأمم المتحدة وعدد كبير من دول العالم، وتقابلها "شرعية" في شرق البلاد (بنغازي)، خلقتها قوة السلاح، وقادها "جنرال" متقاعد من بقايا فلول النظام البائد، عزّ عليه أن يرى بلده تقطع مع أكثر من أربعة عقود من حكم العسكر، وتأخذ طريقها نحو بناء حياة سياسية مدنية سليمة، تكون كلمةُ الفصل فيها للمواطنين المقررين لمصيرهم بإرادة مستقلة وحرة، ومدعومة هي الأخرى أساساً من لدن دول إقليمية، وبعض القوى الدولية التي ترى في ليبيا ساحةَ صراع لقسمة الغنائم.

ويتجلى الجانب الثاني من الطابع المركب للمسألة الليبية في طبيعة المجتمع الليبي ذاته، وحال أوضاعه السياسية والمؤسسية. فقد عمّر النظام السابق أكثر من أربعين سنة، أفرغ خلالها بطريقة منهجية، وبوعي وإرادة، الحياة المدنية من روحها، وألغى كل الوسائط بين الدولة والمجتمع، وتكوّر حول نفسه، حاجباً كل إمكانيات التعبير عن تطلعات الناس ومطالبهم في المشاركة في بناء وطنهم، وتوظيف خيراته لما يخدم نماءه وتقدمه. لذلك، وغداة سقوط رأس النظام وجد الليبيون أنفسهم موزعين على أكثر من ولاء، فعادت القبلية بأقوى صورها إلى بلادهم، وتشتتوا فرقاً وجماعات، وزادهم مخزون السلاح المتاح أمامهم نزوعاً إلى التصادم والاقتتال.

لم تنفع كل المحاولات الدولية لرأب الصدع في ليبيا، وإسعاف الليبيين في تدشين مرحلة سياسية جديدة، تسمح لهم بإعادة بناء مؤسسات بلادهم. فلا لقاءات الصخيرات المتتالية قدرت على ثني إصرار "حفتر" على الاستمرار في التلويح بالحرب وممارستها بشكل متقطع، ولا مبادرات المبعوث الأممي "غسان سلامة" يسّرت ميلاد مناخ للتفاوض من أجل التوافق بين الفرقاء، ولا المشاريع الدولية الثنائية والمنفردة استطاعت جمع الليبيين على طاولة المصالحة الوطنية، ودفعهم إلى بناء دستور توافقي جديد، وشرعية سياسية ومؤسساتية مقبولة من قبل الإخوة الأعداء.. وحدَه مؤتمر برلين الملتئم مؤخرا، جَمعَ الأطرافَ الليبية، والقوى المتصارعة على أرضهم، وشدّد على أولوية الحل السلمي، والكف عن اللجوء إلى السلاح، والجلوس جنا إلى جنب من أجل بناء مستقبل ليبيا.

لم يكَد يلتحق كل المشاركين في قمة برلين بأوطانهم حتى تمّ خرق وقف إطلاق النار في البلاد الليبية، بل إن "الجنرال" المتقاعد لم يتردد في الاستهزاء بالمؤتمر وقراراته، وعبّر الناطق الرسمي باسمه "المسماري" بأن الأولوية لديهم للغة السلاح والاستمرار في استعماله، إلى حين سقوط ما تبقى من الأراضي الليبية تحت قبضتهم، والقضاء على شبح "الإرهاب الإسلامي". أما حكومة "السراج"، المعترف بها دوليا، فظلت تترنح، وتدور في المكان الواحد.

لذلك، يرتبط حلّ الأزمة الليبية ارتباطا وثيقاً بالجانب الدولي والإقليمي، أي بإرادة الفاعلين المؤثرين في ما آلت إليه ليبيا أولا، كما يستطيع الليبيون ثانيا، إن هم امتلكوا من جديد وعي خطورة المنحى الذي يسير عليه وطنهم، وتسلحوا بالشجاعة الكافية لتجنيب بلادهم ولوج نفق لا تبدو معالم الخروج منه واضحة في الزمن المنظور. فمن باب التذكير ليس إلا، ظلت عُيون الأطماع على ليبيا مفتوحة منذ انطلاق حراك شباط/ فبراير 2011، بل إن الحضور الوازن لبعض القوى الدولية والإقليمية لحظة ترتيب سقوط النظام، والتخطيط لما سيعقب سقوطه كانت واضحة في مجالات استغلال الثروات النفطية ومشتقاتها، والاستثمار الأمثل للموقع الجيوستراتيجي لهذا البلد الموجود في عتبة أوروبا، وفي قلب التقاطعات بين المشرق والمغرب العربيين وأفريقيا. ولأن الإخوة الأعداء في ليبيا عزَّ عليهم تدبير إرث نظامهم البائد، وغدا عصيّاً عليهم تجاوز نزعاتهم القبلية والجهوية والذاتية، بما يحقق وحدة البلاد، ويضمن لأبنائها الشروط اللازمة للعيش المشترك، فقد تحولت بلادهم إلى ساحة اقتتال وميدان حرب دولية وإقليمية بالوكالة.

يمكن أيضا أن يكون الجوارُ المغاربي داعما لاستعادة وحدة ليبيا، ومساعدا الليبيين على بناء شرعية دولتهم ومؤسساتها على أسس توافقية جديدة. فليبيا عضو كامل العضوية في "الاتحاد المغاربي"، شارك في تأسيسه، كما كان طرفاً في كل المحاولات السابقة ذات العلاقة بالعمل المغاربي المشترك، ثم تربطه واقعيا أكثر من صلة ومصلحة بالفضاء المغاربي، الممتد من نهر السنغال وحتى منطقة السلّوم على الحدود الليبية المصرية. فاستناداً إلى نوعية هذه الروابط يحتفظ لنفسه بحقوق في علاقته بالجوار المغاربي، كما لأطراف هذا الجوار واجبات تجاه ليبيا. وإلا فإن أي مآل يحدث في الاتجاه السلبي في البلاد الليبية ستكون كلفته المباشرة باهظة على الدول المغاربية، وعلى أجزاء من أفريقيا، وعلى أوروبا ذاتها..