كتاب عربي 21

المقاومة الفلسطينية.. من نكبة 1948 إلى انطلاقة فتح (1)

1300x600
ما لا يعرفه كثيرون أن المعدل السنوي لعمليات المقاومة الفلسطينية والإصابات في الجانب الإسرائيلي خلال الفترة 1951-1956؛ كانت أكبر بكثير من المعدل السنوي لعمليات المقاومة والإصابات في الجانب الإسرائيلي في الفترة الأولى التي تلت انطلاقة فتح، أو انطلاقة ما يعرف بالثورة الفلسطينية المعاصرة و"الرصاصة الأولى" منذ مطلع 1965 وحتى 1967.

وهذا ليس تقليلا من أهمية اللحظة التاريخية الفارقة التي مثلتها انطلاقة فتح، ودورها الرئيسي في المقاومة والمشروع الوطني الفلسطيني؛ وإنما هو تصحيح لمفهوم خاطئ منتشر عن الفترة التي تلت نكبة 1948 وقبل انطلاقة فتح، والتي يتم التعامل فيها مع العمل المقاوم بالكثير من الجهل والتبسيط. وهو أيضا تسجيل لصفحة مقاومة بطولية في تاريخ الشعب الفلسطيني، لم تحظ بما يليق بها من معرفة واهتمام.

يعترف الطرف الإسرائيلي أن عدد القتلى الإسرائيليين في الفترة 1951-1956 بلغ 503 قتلى، وفق إحصائية وزارة "الدفاع" الإسرائيلية (مع عدم احتساب القتلى الإسرائيليين نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة وسيناء أواخر سنة 1956)؛ أي بمعدل 84 قتيلا سنويا، وذلك وفق ما أثبته المؤرخ الإسرائيلي المعروف بني موريس في كتابه "حروب إسرائيل الحدودية" (Israelis Border Wars: 1949-1956)، ص 98. وفي التفصيل يشير إلى أن 245 من هؤلاء قتلوا على يد من يسميهم "متسللين"، بمعدل 41 قتيلا سنويا؛ بالإضافة إلى جرح 446 اسرائيليا على يد هؤلاء "المتسللين" في الفترة نفسها. ويضيف موريس أن الـ258 الباقين هم جنود إسرائيليون، قتل بعضهم على يد "المتسللين"، ومعظمهم قُتل في اشتباكات حدودية مع قوات عربية.

وفي المقابل، فإن عمليات فتح والفصائل الفلسطينية مجتمعة في الفترة 1965 وحتى حرب حزيران/ يونيو 1967 أدت إلى مقتل 11 إسرائيليا، بحسب ما ينقل المؤرخ يزيد صايغ عن المصادر الإسرائيلية، في كتابه "الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993"، بمعدل لا يتجاوز خمسة قتلى سنويا. ولا تزيدها مراجع أخرى عن معدل 14 قتيلا سنويا، وذلك قبل أن تؤدي هزيمة 1967 إلى قفزة كبيرة في العمل الفدائي، نتيجة اضطرار الأنظمة العربية إلى السكوت المؤقت عن العمل الفدائي والعمل المقاوم عبر خطوط التماس.

وبالعودة إلى المقاومة في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، فإن الثقافة المنتشرة بين الناس وعامة المثقفين، هي أن "الاختراق الحدودي" كان مقتصرا على لاجئين فلسطينيين مدنيين، بهدف أخذ الثمار والمحاصيل من أراضيهم، التي أجبروا على مغادرتها في أثناء الحرب، وما يسميه الإسرائيليون "سرقة أو نهبا" مستعمرات وممتلكات "إسرائيلية". وبشكل عام، فإن صحة هذه الظاهرة واتساعها، لا ينفي أنه كانت هناك أيضا عمليات مقاومة حقيقية ذات دوافع وطنية سياسية؛ وإن كانت نسبتها أقل من حالات الاختراق الحدودي؛ لكنها هي أيضا لم تكن قليلة، وكان تأثيرها مقلقا للجانب الإسرائيلي، مقارنة بتلك العمليات التي انطلقت سنة 1965.

في النصف الأول من الخمسينيات، كِان ما يزال الكثير من الفلسطينيين يقطعون خطوط الهدنة، بمبادرات فردية. ومع الزمن، أخذت هذه الهجمات طابعا أكثر تنظيما، وبدأت تأخذ شكل المقاومة الوطنية.

وتشير الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية أن حوادث اختراق خطوط الهدنة كانت 10-15 ألف حادثة سنويا، بعد انتهاء حرب 1948، وأنها وصلت إلى نحو 16 ألفا سنة 1952، غير أنها مالت إلى الانخفاض التدريجي لتصل إلى نحو سبعة آلاف حالة سنة 1953، وليصبح معدلها نحو 4,500 حادث في سنتي 1954 و1955. ويعود سبب الانخفاض إلى السلوك الإسرائيلي العنيف تجاهها، وتطور قدرات وإمكانات الجيش الإسرائيلي، وإلى مجموعة الإجراءات العربية على الحدود لمنع "التسلل"، وبدرجة أقل إلى إنشاء مستعمرات إسرائيلية حدودية. وكان واضحا أن أغلبية حالات الاختراق كانت سلوكا فرديا، وأن الأغلبية الأوسع "للمتسللين" لم تكن مسلحة.

وبحسب الباحث الإسرائيلي بني موريس الذي درس ظاهرة "التسلل" هذه، فإن نحو 10 في المئة من الحوادث كان مرتبطا بخلفية سياسية وبعمل المقاومة المسلحة، غير أن ما يمكن أن يطلق عليه دوافع اقتصادية، كان لا يخلو من دوافع سياسية ومن رغبات في الانتقام والثأر، أو أن العديدين ممن كان يبدأ الأمر معهم اقتصاديا، كان ينتهي بهم إلى تدمير ممتلكات إسرائيلية أو قتل إسرائيليين، وحتى أولئك الذين كانوا يصادرون ممتلكات إسرائيلية، كانوا لا يرون أنهم يقومون بـ"السرقة"، وإنما بعمل وطني انتقامي.

وبناء على ذلك فيمكن استنتاج، أن معدل الاختراق كان من 12-44 حادثا يوميا في الفترة 1951-1956، مما يدل على أن خطوط الهدنة كانت ما تزال "رخوة"، وأن هناك جرأة في الاختراق بالرغم من المخاطر الكبيرة المحتملة؛ إذ تشير التقديرات الإسرائيلية إلى استشهاد 2,700-5,000 فلسطيني "متسلل " في الفترة 1949-1956، مع التنبيه إلى أن معظم الشهداء كانوا في الفترة 1949-1951، حيث انخفض المعدل إلى 300-500 شهيد سنويا في الفترة 1952-1956.

وعلى افتراض صحة معدلات الاختراق المشار إليها، وأن تلك المرتبطة بدوافع سياسية وعمل مقاوم كانت في حدود 10 في المئة، فمعنى ذلك أنه كان يحدث ما معدله عملية مقاومة واحدة إلى أربع عمليات على الأقل يوميا في الفترة 1949-1956 (بدقة أكثر 1.2-4.4 عملية يوميا)، أو بما معدّله 400 إلى 1600 عملية سنويا، مع الإشارة إلى أنه، في المقابل، يذكر المؤرخ يزيد صايغ، وفقا للمصادر الإسرائيلية، أن عدد العمليات الفدائية لفتح والفصائل الفلسطينية مجتمعة في الفترة 1965 وحتى حرب حزيران/ يونيو 1967، بلغ 113 عملية (معدل 47 عملية سنويا). أما فتح نفسها، فقد تحدثت عن شن نحو 200 عملية في الفترة نفسها (معدل 83 عملية سنويا)، حسبما يذكر صلاح خلف (أبو إياد) في كتابه فلسطيني بلا هوية (ص83).

وقد لاحظ موريس أنه وإن اتجهت عدد حالات الاختراق "الحدودي" إلى الانخفاض، فإن العمل المنظم الموجه لأهداف سياسية قد تزايد؛ مما حولها إلى مشكلة عسكرية سياسية إسرائيلية مع مرور الوقت. وقد اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن جوريون حديث له في الكنيست الإسرائيلي في كانون الثاني/ يناير1956 بارتفاع الإصابات في وسط الإسرائيليين في النصف الأول من الخمسينيات، وأنها أخذت منحى تصاعديا من 137 إصابة سنة 1951، إلى147 إصابة سنة 1952، إلى 162 إصابة سنة 1953، إلى 180 إصابة سنة 1954،إلى 258 إصابة سنة 1955.

وعلى ذلك، فقد وفرت الرغبة القوية والواسعة للاجئين الفلسطينيين في المشاركة في العمل الوطني، وفي المقاومة، مع الخبرة الدقيقة بأرضهم المحتلة، أرضية قوية لقوى المقاومة لتجنيد هؤلاء والاستفادة منهم في العمل المقاوم.

وتشير التقارير إلى أن الذين قاموا بعمليات المقاومة في النصف الأول من الخمسينيات نفذوها بمبادرات فردية، أو ضمن مجموعات صغيرة تشكلت وسط اللاجئين، كما كانت هناك مجموعات أكثر اتساعا وتنظيما كانت محسوبة على المفتي الحاج أمين الحسيني والهيئة العربية العليا التي كانت برئاسته، أو كانت محسوبة على الإخوان المسلمين الذين نشطوا، خصوصا من قطاع غزة في الفترة 1951- 195، وكان من عناصرها البارزة خليل الوزير (أبو جهاد) ومحمد يوسف النجار وحمد العايدي ومحمد حسن الإفرنجي، الذين صاروا من مؤسسي فتح لاحقا. وقد تمت الاستفادة من خبرات البدو في النقب في تنفيذ هذه العمليات. وفي مرحلة لاحقة دعمت الحكومة المصرية تشكيل مجموعات فدائية بقيادة الضابط المصري الشهيد مصطفى حافظ، في الفترة 1955- 1956، قامت بتنفيذ عمليات نوعية في العمق الإسرائيلي، كما شجعت الحكومة السورية أو تغاضت عن العمل الفدائي في بعض تلك الفترات.