كتاب عربي 21

هرولة خليجية نحو التطبيع

1300x600
عقب انتصار أكتوبر توجّه السادات إلى عقد معاهدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما فسّره البعض بأن السادات عندما استقر في وجدانه بأن "99 في المئة من أوراق اللعبة بيد أمريكا"، أراد التقرّب منها. وكان السادات يفهم أن التقرّب إلى الولايات المتحدة يمر عبر بوابة دولة الاحتلال، ومن هنا قرّر دخول هذا الباب الدنِس، حينها تبارت نظم عربية في لعنه علنا، والاقتداء به سرا، لكن لعنته الشعوب بصدق. واليوم تتبارى نظم الخليج في الاقتداء بمنطق 99 في المئة من أوراق اللعبة بيد أمريكا، والبوابة لا تزال دولة الاحتلال.

قبيل انتكاسة ثورات الربيع العربي كانت القضية الفلسطينية تمثل معيار الانتماء الوطني والقومي، وبقدر الارتباط بهمومها ومجافاة خصومها يتشكل المزاج الشعبي تجاه الحكومات أو الأفراد. وكانت مرحلة الربيع العربي ذروة الارتباط بالقضية المركزية للعرب والمسلمين، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، لكن الأحداث الكبيرة تتزامن معها تغيّرات كبيرة، وللأسف لم تكن التغيّرات ههنا في صالح القضية الفلسطينية.

كانت حكومات الخليج الأكثر تخوفا من امتداد رياح الانتفاضات والهبّات الشعبية إلى سلطانهم، خاصة مع دخول اليمنيين على خط الثورة، فتوجّهت النظم السعودية والإماراتية تحديدا إلى إعادة تقييم موقفها. وما كشفته الثورات أن التيارات السياسية الإسلامية تمثّل حجر الزاوية في الحراك الشعبي، سواء على مستوى التهيئة أو التنفيذ الفعلي، فبدأت عمليات التحجيم أو إغضاء الطرف عن بعض الأنشطة تتحول إلى عمليات عداوة شديدة الشراسة، وتم صرف المليارات لإيقاف زحف الصحوة الشعبية في المنطقة. وكانت المفارقة أن توافقت الرغبات الخليجية مع الإسرائيلية، فبدأ تكوّن تحالف قذر يراعي مصالح النخب الحاكمة على حساب شعوب هذه البلدان.

نتج عن خوض الإمارات والسعودية معركة الاستبداد، أن ضاعت أحلام الشعوب الثائرة في بحار الدماء، وهذا الانحطاط السلوكي تزامن معه احتياج لدعم دولي لتلك الإجراءات القمعية، ولم يكن ممكنا لدولة الاحتلال أن تضيع هذه اللحظة المشؤومة، فشاركت في حملات الحشد الداعمة لانتكاسات الربيع العربي. وربما قامت بهذا لسببين، أولهما، إنهاء لحظة الخطر التي أنتجها الربيع العربي، وثانيهما، تحقيق مكاسب لم تكن ممكنة قبل الضعف العربي العام، وانتقال مركز القرار العربي من الحواضر الكبرى إلى دول لا تعرف من السياسة سوى دفع الجباية لتأمين الحماية.

كان مفاجئا أن الدولتين (ومعهما البحرين) قامتا بالسعي الحثيث نحو تطبيع العلاقات بصورة علنية، كما سمحت لمواطنين باستضافة صهاينة محتلين والاحتفاء بهم، وحجم الرقابة والمتابعة في هذه الدول يفوق نظيراتها في الدول العربية، ولا يمكن لمقيم داخلها أن يخالف النظام الحاكم بهذه العلنية دون المساس به، الأمر الذي يدلل على دعم هذه السلوكيات.

على مستوى آخر، فإن قطر كذلك تفتح أبواب التطبيع عبر المسابقات الدولية، والمواقف العربية القديمة كانت لا تقبل بإعطاء تأشيرات دخول لحاملي جنسية دولة الاحتلال، وهو ما فعلته دولة ماليزيا مطلع هذا العام، بإعلانها عدم استضافة أي فعاليات رياضية يشارك فيها رياضيون من دولة الاحتلال، الأمر الذي لا يسمح لدولة قطر ولا غيرها بأن تتعلل بالطابع الدولي للمسابقات. لكن تجدر الإشارة إلى الفرق بين الحالة القطرية والحالة الإماراتية- السعودية، أن الدعم الشعبي أو الرسمي للقضية الفلسطينية ملموس وظاهر في قطر، الأمر الذي يصب في مناعة الشعب القطري ضد التطبيع، بخلاف العداوة التي تبديها دول محور الشر بالمنطقة (الإمارات والسعودية ومصر) تجاه القضية الفلسطينية، والحركات المقاومة على وجه التحديد.

إن الصلابة الشعبية تجاه القضية الفلسطينية تمثل أحد مظاهر مناعة المجتمع ووعيه، والتراخي تجاهها ينقُض وصف الصلابة ويُؤذِن بضعف المناعة، ولم تنتكس هذه المنطقة بأي عامل مثلما انتكست بعامل قبول هذا الجسم السرطاني الخبيث، الذي أذكى الحروب والصراع والخراب بالمنطقة. ورغم كل محاولات تجريف القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب، فلا تزال فلسطين حاضرة بقوة في الوعي العربي الرافض للاحتلال وانتهاكاته. كما أن الوعي الفلسطيني بمخططات الاحتلال هو بمثابة شرايين تستمد منها الأمة غذاء المناعة، ويقف حائلا بين كل تنازلات القادة العرب المعنيين بمواقعهم ومراكزهم، ولا يأبهون إن ترك كل الفلسطينيين أرضهم طوعا أو كرها، المهم ألا يعلو صوت الفلسطينيين بالشكوى.

رغم كل محاولات التطبيع والخيانة والتنازل فستبقى كلمات نزار قباني محفورة في الوجدان:

إلى فلسطين طريق واحد  يمر من فوهة بندقية