قضايا وآراء

قراءة في كلمة الرئيس التونسي قيس سعيد

1300x600

رغم عدم انتهاء المئة يوم التي تُمثل نوعا من "الهدنة" الضرورية قبل الحكم على الرئيس التونسي أو عليه، كان التونسيون ينتظرون كلمة رئيسهم في احتفاليات 17 كانون الأول/ ديسمبر، تلك الاحتفاليات المؤرخة لانطلاق الثورة التونسية، وما تلاها من أحداث غيرت المشهد الجيوسياسي إقليميا ودوليا.

كان التونسيون ينتظرون (من مواقع مختلفة) نهاية فترة الصمت الاختياري التي ألزم السيد قيس سعيّد نفسه بها، ليفهموا توجهاته العامة خلال المرحلة القادمة. فالمشهد العام بمختلف مجالاته يستدعي مواقف تعديلية أو مبادرات سياسية من أعلى هرم السلطة، بل يستدعي (حسب مناصري الرئيس) تدخلا من مؤسسة الرئاسة بقصد التجاوز الجذري للأزمة المجتمعية، ضمن مقاربة مختلفة للفعل السياسي أو للحقل السياسي برمته.

وسنحاول في هذا المقال قراءة كلمة الرئيس قيس سعيد من جهة الرسائل التي بعث بها للتونسيين ولشركائه في إدارة الشأن العام، كما سنحاول الوقوف على بعض المحاور "المسكوت عنها" اختيارا أو بصورة غير قصدية في الجملة السياسية للرئيس.

 

جاءت كلمة الرئيس في مهد الثورة التونسية "عفوية" في ظاهرها، إذ لم يقرأ السيد قيس سعيّد كلمة مكتوبة، ولكنّ العفوية في السياسة مجرد مخاتلة أو هي خيار وظيفي يخدم الخطاب في المستوى الميتا-لغوي

جاءت كلمة الرئيس في مهد الثورة التونسية "عفوية" في ظاهرها، إذ لم يقرأ السيد قيس سعيّد كلمة مكتوبة، ولكنّ العفوية في السياسة مجرد مخاتلة أو هي خيار وظيفي يخدم الخطاب في المستوى الميتا-لغوي: تذكير بالفعل العفوي (الاحتراق) الذي مارسه الشهيد محمد البوعزيزي على جسد السلطة في اللحظة ذاتها التي مارسها على جسده الخاص. ولا شك في أن خطاب الرئيس "العفوي" هو في بعض وجوهه حرق واحتراق. فهو "حرق" رمزي للمنظومة السياسية بأكملها (بل لسرديتها الرسمية للثورة واحتفاليات 14 كانون الثاني/ يناير التي طالب باستبدالها بـ17 كانون الأول/ ديسمبر)، وذلك عبر خطاب يتقابل فيه أنا المتكلم مع "هم" المحيلة على التشكيلات السياسية كلها بلا تخصيص. وهو أيضا "احتراق" رمزي بإصرار الرئيس على ذلك التقابل الجذري الذي لا يعلم مآلاته أحد، والذي يجعل الرئيس ينتقل بالخطاب من مستوى "المؤامرات" على الانتقال الديمقراطي إلى مستوى التآمر على مشروعه الخاص (أو مشروع "الثورة" باعتبار أنّ "أنا" المتكلم هي تكثيف لـ"نحن" التي يُمثلها أغلب التونسيين الذين يتحدث الرئيس باسمهم).

طوال كلمته، حاول الرئيس أن يقيم مفاصلة جذرية بين ضمير المتكلم (أنا) وبين ضمير الغائب الجمع (هم)، وهي مفاصلة وضعته في تقابل مطلق مع الفاعلين السياسيين دون أدنى تمييز. وبصرف النظر عن منطق الزعامة الذي حال دون إدراج المشروع الرئاسي في منطق "النحن"، الذي يحيل إلى وجود فريق كامل خلف ذلك المشروع، فإنّ الرئيس لم يدخر جهدا في استهداف الفاعلين السياسيين الذين اعتبر أن أزمتهم (أزمة تشكيل الحكومة) ليست هي أزمة التونسيين. فالحقل السياسي لم يعد أداة لتنزيل شعارات الثورة ومأسستها (الحرية، الشغل، الكرامة)، بل أصبح عائقا أمام إرادة الشعب، تلك الإرادة التي تُمثلها مبادرات الشباب التي تستدعي الحكم المحلي أو القاعدي، وتحول دونها ترسانة التشريعات التي وضعها السياسيون وأحزابهم، رغم كل ادعاءات اللامركزية وأوهام التمييز الإيجابي.

 

إننا أمام أزمة منظومة حكم، وليس تعثّر تشكيل الحكومة إلا مظهرا من مظاهرها، كما أن محاولات استهداف الرئيس و"التآمر" عليه في "الغرف المغلقة"

إننا أمام أزمة منظومة حكم، وليس تعثّر تشكيل الحكومة إلا مظهرا من مظاهرها، كما أن محاولات استهداف الرئيس و"التآمر" عليه في "الغرف المغلقة" (وهو حسب الرئيس التونسي تآمر على إرادة الشعب، لأنه هو التجسيد "الأوحد" لتلك الإرادة) ليست إلا تصعيدا للأزمة، أو محاولة استباقية لإفشال الرد الشعبي المناسب، المتمثل في "مشروع الرئيس".

بنبرة متوترة وبحسم واضح، أصرّ الرئيس على مسؤولية "هم" على إهدار كل استحقاقات الثورة وتأزيم المشهد السياسي، أما هو فهو ضحية مؤامرات ومكائد في "الغرف المظلمة". ولذلك فإن عدم إمضائه على مشروع تعديل القانون الانتخابي ليس جزءا من الأزمة أو تعميقا لها، وصمته في قضايا تتصل بصلاحياته (كقضية الوردانين أو الاغتيال السياسي أو التسفير لسوريا أو التهريب أو المديونية أو الأموال المهرّبة إلى الخارج أو علاقات التبادل اللامتكافئة مع الغرب باعتبارها كلها قضايا أمن قومي)، هي ليست جزءا من الأزمة، وكذلك ضبابية مشروعه وتقابله مع "الكلمة السواء" أو الدستور ليس جزءا من الأزمة وتعميقا لها.

إننا في الظاهر أمام خطاب"ضحية"، ولكننا في العمق أمام خطاب "زعاماتي" يطلب "التفويض الشعبي". وهو تفويض لـ"الأنا" على تقويض المنظومة السياسية بأكملها، فتلك المنظومة ومفاهيمها ومؤسساتها التوسطية (الأحزاب) قد صارت "كالدواء غير الصالح للاستهلاك". ولا شك في أن الدواء عندما "تنتهي صلاحيته" يصبح خطرا على الجسد الاجتماعي كله، ولا شك أيضا في أن قيس سعيّد يرى في نفسه صيدلانيا جيدا على خلاف بقية الفاعلين السياسيين. ولن يجد الرئيس استعارة أفضل من هذه لتمرير مشروعه للحكم المحلي أو المجالسي القائم على التصعيد المباشر، دون الحاجة إلى الانتظام الحزبي أو وساطة الأحزاب المهيمنة على الحقل السياسي.

 

إننا في الظاهر أمام خطاب"ضحية"، ولكننا في العمق أمام خطاب "زعاماتي" يطلب "التفويض الشعبي"، وهو تفويض لـ"الأنا" على تقويض المنظومة السياسية بأكملها

لتبرير صمته أمام الوضع السياسي المأزوم، أكد الرئيس أنه يعمل في صمت لتحقيق "إرادة الشعب"، وهو بذلك ينزع الشرعية عن كل ممثلي الشعب وأحزابهم؛ فالديمقراطية التمثيلية (حسب هذا الطرح السياسي) لا تعكس الإرادة الشعبية، بل هي أداة للانقلاب عليها. ولا نستغرب عندها أن يتعامل الرئيس مع كل الفاعلين السياسيين باعتبارهم كتلة متجانسة لا يوجد فيها أي حليف موثوق، بل لا نستغرب أيضا أن يتمثل الرئيس نفسه باعتباره ضحية لهؤلاء السياسيين وغرفهم المغلقة. وإذا ما كانت الثورة قد اندلعت "بلا أحزاب ولا قيادة"، فإن الوفاء لاستحقاقاتها سيحتاج إلى قيادة وإن لم يكن محتاجا بالضرورة إلى أحزاب، وهو أمر من الطبيعي أن يثير مخاوف الأحزاب، بل مخاوف الكثير من التونسيين. فإذا كان من حق السيد قيس سعيّد أن يعتبر الأحزاب وما يتأسس عليها من منظومة حكم سببا في الأزمة، فإن من حق التونسيين أن يتساءلوا عن طبيعة بديله: كيف يمكن حماية التعددية والحريات في نظام لا يعرفون عنه سوى أن الحلول ستُستنبط من القاعدة ومن المعتمديات، وسوى أنّ حل الأزمة سيكون بتمكين الشعب من الآليات القانونية لتحقيق إرادته؟

انطلاقا من وعيه بتعارض مشروعه جذريا مع الحقل السياسي بمختلف تشكيلاته الحزبية، حاول الرئيس قيس سعيد طوال كلمته في سيدي بوزيد أن يؤسس لـ"شراكة" أخرى تكون بديلا لشراكته المفترضة (لكن المستحيلة) مع الفاعلين السياسيين: شراكة بينه وبين "الشعب". وهي في الحقيقة ليست شراكة، بل طلبا لـ"تفويض شعبي" للتصدي لأولئك الذين يقفون ضد إرادة "الشعب"، أي طلبا لتفويض شعبي لتقديم مبادرة تشريعية ضد الطبقة السياسية ومنظومة الحكم برمتها.

ولا شك في أن "التفويض الشعبي" رغم عدم حضوره صراحة في كلمة الرئيس هو جوهر الخطاب ومركزه، لأنه يُمثل الشرط الضروري لإمضاء مشروع الرئيس. ولا شك أيضا في أن التفويض الشعبي (في ظل نظام ديمقراطي) سيحتاج إلى تفعيل آلية الاستفتاء الشعبي العام، وهو ما يعني أن من مصلحة الرئيس "تعفّن" المشهد السياسي وانسداد أي أفق لتجاوز أزمته الحالية، لأن ذلك كله سيكون عاملا مساعدا له في إقناع الرأي العام بضرورة تجاوز منظومة الحكم الحالية وتفويضه لتحقيق "إرادة الشعب" من خارج الوساطات الحزبية والمنظومة التشريعية القائمة، أي من خارج القانون المنظم للسلطات والفلسفة السياسية التي تأسس عليها.