أخبار ثقافية

دانتي.. الشاعر والسياسي (الكوميديا الإلهية)

تنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، والجنة - أرشيفية


الملهاة الإلهية أو الكوميديا الإلهية، هي شعر ملحمي ألفه دانتي أليغييري ما بين 1308 حتى وفاته عام 1321.

يقول في كتابه الأول "الحياة الجديدة":

فكرة الملحمة الشعرية كانت نتاج رؤيــا
رائعة، رؤيا ألهمتني كل ما سأكتبه فـي
مقبل الأيــام.. لقــد ظهرت لـي بياتريس
وكأنها حية تنطق.

وهذه الرؤيا هي التي دفعته لكتابة الكوميديا، وخاصة القسم المخصص لأهل الجنة، حيث وضع بياتريس في أعلى مرتبة، لكن الكوميديا قاربت موضوعات دنيوية بنقد نخبة تلك الأيام الدينية والسياسية.

تنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، والجنة.

ويعكس هذا التقسيم التزام دانتي بالديانة المسيحية في صيغتها الكاثوليكية، فالمسيحية تقسم الآخرة إلى ثلاثة أقسام:

ـ الجنة، حيث الأخيار الناجون الذين تغلبت حسناتهم على سيئاتهم، ويظهر الناعمون بالفردوس كأنهم يشكلون وردة العرش ويحتلون في مدرج واسع أماكن كبيرة تتناسب مع أعمالهم البطولية وأمجادهم.

ـ الجحيم، حيث الأشرار الذين تغلبت سيئاتهم على حسناتهم، يجري تعذيب المترددين، الذين لم ينضموا الى أي حزب من الأحزاب المتصارعة، إذ يظهر الناس عراة يلسعهم النحل والذباب، وتسيل من عيونهم الدموع الممزوجة بالدم.

ـ المطهر، مكان يتوسط بين الجنة والنار حيث ممن هم لا أخيار ولا أشرار،  والأمل المنبعث في قلوب الموجودين في المطهر وفرحهم وهم في وسط اللهيب، يتلاءم مع مزاجهم المتحمس الذي يؤكده صعودهم المستمر إلى أعلى.


تحتوي الملحمة الشعرية على نظرة خيالية بالاستعانة بالعناصر المجازية حول الآخرة بحسب الديانة المسيحية، وتحتوي على فلسفة القرون الوسطى كما تطورت في الكنيسة الغربية / الكاثوليكية الرومانية.

يعتبر قسم الجحيم أهم قسم في الملحمة، يتألف من 34 مقطعا، بينما يتألف كل من القسمين الآخرين من 33، أي أن الكوميديا الإلهية مكونة من 100 مقطع أو أنشودة ككل، لتتألف بمجملها من نحو أربعة عشر ألف بيت شعري.

 

اقرأ أيضا: دانتي.. الإنسان والسياسي (في الملكية)


تتميز الأبيات الشعرية بالإيقاع القوي، فينقسم كل جزء إلى تسعة فصول وفصل عاشر إضافي، والقصيدة كلها مكتوبة على شكل مقاطع ثلاثية، ينتهي كل جزء منها بكلمة النجوم.

وفي هذا الشكل الشعري، نجد أن البيتين الأول والثالث من كل مقطوعة، على وزن البيت الأوسط من المقطوعة السابقة.

الكوميديا الإلهية، هي عبارة عن رحلة خيالية قام به دانتي في الممالك الثلاث "الجحيم والمطهر والجنة" في الآخرة.

بطل الملحمة الشعرية هو دانتي نفسه التائه عند مفترق الطرق وسط غابة مظلمة تغص بالذنوب، ويصف في قصيدته هذه عالما أبدعه في مخيلته، فيه مكان للخير، وكذلك للشر الذي يراه الشاعر نتيجة للعجرفة المفرطة في سلوك أول ملاك تمرد على حكمة الرب.

الجحيم

كتب دانتي قسم الجحيم ليضع فيه خصومه السياسيين الذين نفوه وحرموه من العيش في مدينته الأولى ومسقط رأسه، فلورنسا.

لقد وضعهم جميعا في الطبقات السفلى للجحيم لكي ينتقم منهم ومن أعمالهم السيئة تجاهه وتجاه الآخرين، ثم كتب قسم المطهر، أي لا الجنة ولا النار، لكي يضع فئة ثالثة فيه، فئة لا هي خيرة كليا ولا شريرة كليا.

ويرى دانتي أن مصدر الشر هو الإنسان ذاته، إذ يقول في المطهر وفي القصيدة السادسة عشرة:

إذا كان العالم الحالي منحرفا وضالا
فـابحثوا عـن السبب فــي أنفسكم.


وتكمن المأساة حسب دانتي في العقول النائمة، فالمدانون في الجحيم هم أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير والإدراك والفهم، وهو عندما ينظر إلى أعماق الإنسان يرى أن قلبه يتآكله الحسد والبخل والطمع.

يتصور موقع الجحيم بعيدا عن الإله الذي يشع نورا، ويتصور المطهر جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض، فهو يصبو في قرارة نفسه إلى رحلة ارتقاء روحي نحو الكمال يقوده فيها رجيل أولا، ومن ثم بياتريتشه إلى العالم الآخر بهدف التقرب إلى الخير الأعلى والسكينة الدائمة.

والحقيقة الإلهية في نظر دانتي واحدة وإن اختلفت الديانات، حقيقة أعلنها الأنبياء وأولهم موسى.

آمن دانتي بوجود إله واحد أبدي يحرك ولا يتحرك، وبأن هذه الحقيقة موجودة في الكتب السماوية ويمكن لأي إنسان أن يكتشفها إن أعمل عقله، وكان في الوقت ذاته يدافع عن طبقة حاكمة نبيلة تصل إلى السلطة بالعلم والفضيلة.

كان يؤكد على المثال الأعلى لإعادة التوليد الديني، أي الحاجة إلى تغيير القلب كوسيلة وحيدة لإنقاذ العالم.        

من هنا كان استياءه من البابا الذي يُفترض به أن يمثل خير الكنيسة كرسالة سماوية، وعلى الرغم من أنه وضع البابا بين المنافقين، إلا أنه حزن عليه كثيرا حين تم الاعتداء عليه من قبل رجال الملك الفرنسي في نوغاريه، وفي هذا كتب دانتي في الأنشودة العشرين من الكوميديا الإلهية:

في أغنـاني رأيت زهرة الزنبق تدخـل،
وشاهدت المسيح سجينا في شخص
نائبه. 


تأثير الثقافة الإسلامية

أعلنت منظمة غيروش 92 للدفاع عن حقوق الإنسان عام 2012 أن قصيدة دانتي هي عمل عنصري معاد للإسلام وللسامية، وطالبت بإلغائها من المناهج المدرسية.

وانتقدت المنظمة مقاطع معينة من الكوميديا الإلهية، وخاصة الأنشودة 34 التي تتحدث عن الشيطان وهو يمضغ يهوذا بين أسنانه، والأنشودة 28 التي تسيء للنبي محمد، والأنشودة 26 من المطهر التي تصور مثليين تحت وابل من النار.

ومع ذلك، فإن بعض الباحثين يرون أن الثقافة الإسلامية كان لها تأثير في الكوميديا الإلهية، وفي هذا يقول صلاح فضل في كتابه "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي" أن هناك تأثيرا منهجيا ملحوظا، وخاصة رحلة الإسراء والمعراج في أفكار دانتي عن الحياة الأخرى.

يجري فضل مقارنة بين دانتي وابن عربي، فيقول:

تصور دانتي الذات الإلهية على أنها
نــور الأنــوار، وأن الأشعـة المنبعثة
منها تختلف تبعـا للقرب من المصدر
الإلهــي، وأن الخلق ليس إلا انبثاقا
 لهذا النور.


ويؤكد فضل أن الفلسفة أو الرؤية الإشراقية لم تصل إلى الغرب إلا عن طريق الفلاسفة والمتصوفين العرب.

ويشير فضل أيضا إلى تشابه بين الكوميديا الإلهية وبين فصل من فصول كتاب "الفتوحات المكية" لإبن عربي، إذ يصف ابن عربي رحلة الأرواح لمعرفة جوهر بدايتها، وهو الحق، ومعرفة الخالق، لتصل في النهاية إلى السعادة الأبدية، وذلك من خلال حكاية مجازية صوفية عن رجلان مسافران إلى الله تعالى، أحدهما يشق طريقه إليه بالإيمان، والآخر يشق طريقه إليه بالفلسفة والعقل، وترمز المراحل الأولى من الرحلة إلى كمال الأرواح وسعادتها، وذلك قبل الوصول إلى المعارج السماوية.

لا يوجد ذكر لابن عربي في كتابات دانتي، وهذا يصح على كل المفكرين الأوروبيين في تلك المرحلة ممن تأثروا بالفلاسفة المسلمين دون ذكر اسمهم، باستثناء ابن رشد.

لكننا نتحدث هنا عن نهاية القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، وهي المرحلة التي بدأ فيها تأثير الثقافة الإسلامية في الفكر الأوروبي.

وقد أكدت كثير من الدراسات الحديثة ما استمده دانتي من المصادر الشرقية وخاصة المصادر الإسلامية، كقصة أردا فيراف التي تصف الصعود إلى السماء، ووصف الجحيم الوارد في القرآن، ووصف الجنة والنار في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، فضلا عن قصة المعراج وتأثره ابن عربي.

ومن هذه الدراسات، كتاب "أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية" لـ المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس، الذي تحدث عن تأثير ابن عربي في "مجموعة الأغاني" لـ دانتي.