قضايا وآراء

المثقفون.. والكذب الذي يسير على أحسن ما يرام

1300x600

فى قصة القناع للكاتب الروسى الكبيرأنطون تشيكوف (1860-1904) يجلس مجموعة من المثقفين في قاعة للمطالعة يقرأون ويفكرون ويتناقشون، وإذ فجأة يدخل عليهم في غرفتهم الجانبية رجل متنكر بقناع فيجلس بينهم ويشرب الخمر ويثير ضوضاء، ويطالبه المثقفون الجالسون بالتزام الهدوء ولا يفعل فيقول له أحدهم: لن أسمح لك بذلك ويتوعده، فيخلع الرجل صورة تنكره (القناع) حتى يعرف الجميع بأنه المليونير الكبير "بيتيجوروف"، صاحب المصانع والأراضي، وبعد أن فرض سطوته وأخرجهم إلى الصالة، سكر حتى الثمالة، وقام للخروج، أسرع إليه بعض من السادة المثقفون وأخذوا بيد المواطن الأصيل المحترم وهم يبتسمون بسرور وساروا به بحذر إلى العربة، وبعد أن أوصلوه عاودهم المرح والاطمئنان.. وقال أحدهم وهو سعيد جدا: لقد مد لى يده عند الوداع، إذن فليس غاضبا.. كوميديا سوداء أراد أن يختصر بها الروائى الكبير وأعظم من كتب القصة القصيرة في كل العصور صورة بعض المثقفين وأدوارهم (النتنة) فى التبرير والتزييف وقلب الحقائق..

من أوائل الكتاب الذين تناولوا مشكلة المثقفين في مجتمعاتهم الأديب والناقد الفرنسى جوليان باندا (1867-1956) الذي كتب سنة 1927 كتابه الشهير "خيانة المثقفين" أو "خيانة الإكليروس" فتحدث المثقفين بإعتبارهم في مرتبة تفوق مرتبة البشر العاديين وشدد على دورهم في فضح وتعرية الفساد ومناصرة الضعفاء. وهو يسحب وينفى صفة مثقف عن كل من يتردد في المجاهرة بالحق، منذ صدور ذاك الكتاب صار مصطلح "خيانة المثقفين" يرمز للإشارة إلى تخلي المثقفين عن استقامتهم الفكرية وقبولهم بمغريات السلطة، وهو ما يقودهم للانحياز لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية.

 

حين يكون الحديث عن المصالح السياسية والنفعية على حساب الدور والمسؤولية الأخلاقية، سيكون علينا أن نقف وقفة قصيرة عند الكتاب المجهول للراحل الكبير الأستاذ هيكل "أزمة المثقفين"

وحين يكون الحديث عن المصالح السياسية والنفعية على حساب الدور والمسؤولية الأخلاقية، سيكون علينا أن نقف وقفة قصيرة عند الكتاب المجهول للراحل الكبير الأستاذ هيكل "أزمة المثقفين"، والذي كان نتاج حوارات طويلة دارت في أوساط المثقفين المصريين عام 1961 حول تعريف ودور المثقف في دولة "الزعيم الخالد" الذي كان وقتها في أوج سلطانه.. تلقف أ/هيكل الفكرة من الزعيم الخالد الذي كان يريد لكل شىء أن يكون في قبضة الدولة والتى هى بالطبع قبضته هو بالأساس.. ثم دفعها إلى أ/لطفى الخولى وبدأت سلسلة مقالات حولها.. بدأها أ/لطفي الخولي ثم التحق به أ/هيكل وكتب سلسلة مقالاته الشهيرة والتي جمعها بعد ذلك في كتاب.. أظرف شيء في الموضوع كله أن هذا الكتاب لا تضمه الأعمال الكاملة للأستاذ هيكل، في حالة أشبه بإنكاره.

كتاب هيكل لم يكن عن أزمة المثقفين، ولا يتناول أمور وقضايا الثقافة، وإنما كان كالعادة بمثابة تبرير من هيكل للانتقادات التي كان يوجهها المثقفون للثورة، والتي كانت سببا في عدم اندماجهم في أجهزتها ومؤسساتها.. الكل اندمج بعدها وأصبحوا مثل مثقفي تشيكوف في قصة القناع!.. وصل ارندماج إلى حد الدخول في "الحظيرة" الشهيرة لفاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق.

الكاتب المغربي الشهير "عبد الله العروي" كتب أيضا عمله المعروف حول نفس الموضوع (أزمة المثقفين العرب). لدينا أيضا كتاب أ/علي الحرب الشهير "أوهام النخبة" الذي هاجم فيه "المثقف العربي" واتهمه بأنه يسعى من خلال عمله الفكري والتنظيري إلى توظيف سلطته العلمية والمعرفية، لزيادة نفوذه الاجتماعي وتحقيق سلطة سياسية مدفوعا بإرادة القوة، حيث القوة هى الغريزة الوحيدة التي يعتمدها المفكر بعد الحداثي لتفسير السلوك الاجتماعي والسياسي.. هكذا قال على حرب.

 

المثقف العربي" يسعى من خلال عمله الفكري والتنظيري إلى توظيف سلطته العلمية والمعرفية، لزيادة نفوذه الاجتماعي وتحقيق سلطة سياسية مدفوعا بإرادة القوة

المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد (1935-2003) لا يمكن أن نغفل كتابه الأخير الذي صدر قبل رحيله عام "خيانة المثقفين" الذي يحدثنا فيه عن "المثقف المنشود"، الذي يرفض ويصادم ويحتك ويتفاعل ويتطور ولا يستجيب لحالة السكون، ويكون صوت نفسه لا بوقا لأحد ويعبر عن تصوراته قبل كل شيء، ولا يكون مجرد بيروقراطي كفء. لكن هيهات!

"المثقفون الزائفون" هو عنوان كتاب هام للكاتب الفرنسى الكبيرباسكال بونيفاس (63 عاما) الذي يعد من أهم المفكرين السياسيين في فرنسا حاليا، وله كتب عديدة عن المنطقة العربية والشؤون الفرنسية والعالمية، وهو مؤسس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس. تُرجم الكتاب إلى العربية ترجمتين إحداهما للكاتبة السورية روزا مخلوف والأخرى جزائرية للدكتور عبد الرحمن مزيان.

يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: "شغلتني فكرة هذا الكتاب منذ وقت طويل. فكم من مرة دهشت وانتابني شعور بالغضب أو الضيق عندما كنت أكتشف أثناء جدال عام أن خبيراً نطق بكذبة وأن هذه الكذبة قد مرت مرور رسالة في البريد.. لا أتكلم هنا عن خطأ بل عن كذب متعمد..".

يقول أيضا: "يذهلني كل أولئك المثقفين والخبراء الذين لا يتورعون عن اللجوء إلى حجج مخادعة وعن إطلاق الأكاذيب من أجل حصد التأييد، تبدو وقاحتهم وانعدام ذمتهم بلا حدود وتشكل ورقة رابحة، وبدلاً من مقابلتهم بالاستهجان العام، يقابلون بمزيد من التهليل، الكذب الحقيقي يسير على أحسن ما يرام".

 

كان لـ"المثقف العربي" دور كبير كمنظر ومبرر لثقافة "السلطان"، وهو يلهث وراء مصالحه ومنافعه وثراؤه وأحقاده أيضا، والتي أنتجت في نهايتها هذه الدائرة المغلقة

يقول: "مرة أخرى لا أتكلم هنا عن أخطاء يمكن لأي من كان أن يرتكبها.. غير أن البعض يراكمها دون أن يؤثر ذلك بالهالة التي تحيط بهم. الرياضي الذي يسجل أداء سيئاً مرة تلو المرة قد يستبعد من التصفيات، أما المثقف الخبير فقد ينتقل من خطأ إلى آخر دون أن تتوقف دعوته إلى المنصات. لا هبوط على الأرض مجدداً بعد أن يتم وضعك في فلك وسائل الإعلام. ويقسم باسكال هذا النوع من المثقفين إلى "مزيفين" و"مرتزقة". المزيفون الذين يؤمنون بقضية ما، لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها ونصرتها.. والمرتزقة (وهم الأسوأ) لأنهم لا يؤمنون بغير مصالحهم، ولذا يتظاهرون بالانتساب لقضية ما ليس من باب القناعة بها.. ولكن لارتفاع مردودها عليهم".

ويحاول معرفة سبب جرأة هذين الصنفين على الكذب، فيقول بأن قول الحقيقة يتطلب مجهوداً كبيراً من البحث والتحري.. وأما الكذب فيحسم الجدل لصالحهم سريعاً ولا يحتاج إلا إلى الحبكة والجرأة.. فما أجرأهم وأغلظ وجوههم.

للأسف الشديد كان لـ"المثقف العربي" دور كبير كمنظر ومبرر لثقافة "السلطان"، وهو يلهث وراء مصالحه ومنافعه وثراؤه وأحقاده أيضا، والتي أنتجت في نهايتها هذه الدائرة المغلقة، والتي تتوالد داخلها وتتناسل كل هزائم أمته العسكرية والثقافية والحضارية.