كتاب عربي 21

قراءة في مشروع المصالحة بين قطر والسعودية

1300x600

تعيش الأوساط الخليجية والعربية على أخبار مصالحة قريبة بين الإخوة في الخليج بعد مرور ما يقارب سنتين ونصف هما عمر الأزمة الأخطر التي ضربت البناء الخليجي وكادت تصيبه بالشلل. التسريبات لا تقول شيئا مفصلا لكنها تؤكد على أن قطار المصالحة قد انطلق بمبادرة سعودية هذه المرّة من أجل التوصل إلى حلّ يُنهي الأزمة ويعيد البناء الإقليمي إلى لحمته التي كانت له قبلها وهو الخبر الذي استبشر به الجميع تقريبا في كامل المنطقة.
 
لكنّ النوايا لا تكفي والتفاصيل كثيرة ومعقّدة والخاسرون من المصالحة لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام انهيار الطبخة التي طبخوها بعناية فائقة، حيث سرعان ما ارتفعت أصوات خليجية تشكك في صدق النوايا. وهي أصوات ارتكزت في قراءتها على غياب أمير قطر عن حضور القمة الخليجية بنفسه وإرسال رئيس الوزراء لتمثيله. فقد صرح وزير خارجية البحرين والإمارات بأن قطر غير جادة في السعي إلى المصالحة وهو موقف عبرا عنه خلال القمة الأربعين لدول مجلس التعاون الخليجي المنعقدة في الرياض.

المصالحةُ مبدأً

لا يمكن قبول القول بأنّ قطر لا ترغب في المصالحة مع جوارها الإقليمي وخاصة مع المملكة العربية السعودية، وهو الإقرار الذي يجد صداه في مرجعين أساسيين: أما الأول فيتجلى في التصريحات الرسمية للدبلوماسية القطرية ممثلة في وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الذي أكد في أكثر من لقاء صحفي على أنّ يد قطر ممدودة للمصالحة منذ اليوم الأول شرط أن لا تكون مصالحة مشروطة تمس من سيادة الدولة واستقلال قرارها. كما أكد أنّ قطر أشد الدول حرصا على وحدة البيت الخليجي ولحمة الشعوب الخليجية التي تعتبر المتضرر الأول من هذا الحصار.

 

لم يكن وقعُ الحصار الأخطر ماديا أو اقتصاديا بل كان له أساسا وقع نفسي على المجتمع القطري الذي حيل بينه وبين أهله في الخليج كما حيل بينه وببين أداء الحج والعمرة وحيل بينه وبين مصالحه خارج قطر.


أما المصدر الثاني ممثلا في رأس الدولة وحاكمها الأمير تميم بن حمد آل ثاني الذي أبدى صدمته من الحصار خلال أيامه الأولى وهو الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد في حينه. لكن بعد استمرار الحصار وتوسعه وإثر ما أحدثه من حيف في حق الشعب القطري فقد أكد الأمير على تمسكه بمبدأ المصالحة شرط أن تشمل أول ما تشمل شعب قطر. وهو ما يعني أن المصالحة طور يتحقق بعد رفع القيود المفروضة على المواطنين القطريين مثل منع السفر ومنع التواصل مع أقاربهم في بقية دول مجلس التعاون. 

هذان الموقفان يمثلان الجواب الرسمي والردّ الموضوعي على كل مشكك في الموقف القطري وهو موقف لا يأخذ في الاعتبار كل الضرر الذي لحق بصورة الدولة وكل الاتهامات المجانية التي ألصقت بها وكذلك جريمة السعي إلى النيل من نظام الحكم بالقوة العسكرية كما صرح بذلك أمير دولة الكويت. 
الثابت إذن هو أن القطريين حريصون على المصالحة كل الحرص بل يمكن القول دون مجازفة أنهم أحرص الخليجيين على المصالحة لا لأنهم متضررون منها بل لأنها تعيد الوضع الخليجي إلى حالته الطبيعية بين إخوة شركاء في الأرض واللغة والعقيدة والتاريخ والمصير.
 
خلفيات الموقف القطري 

كثيرة هي المعطيات التي يمكن من خلالها تبيّن الموقف القطري من المسار الجديد للمصالحة، خاصة إذا سلّمنا بحرص الدوحة على ترميم البيت الخليجي والخروج من الأزمة الحالية التي فرضت على القطريين فرضا.
 
لا يخفى على أحد طابع الحذر والتريث الذي تتسم به مواقف الدولة القطرية من كل ما له علاقة بالحصار الذي ضرب عليها، وهو موقف يجد تفسيره في حالة الصدمة التي أصابت الدولة ليلة قررت مجموعة الأربعة غلق الأجواء البرية والبحرية والجوية في وجه المواطنين والسلع وكل أنواع المواصلات. 

لم يكن وقعُ الحصار الأخطر ماديا أو اقتصاديا بل كان له أساسا وقع نفسي على المجتمع القطري الذي حيل بينه وبين أهله في الخليج كما حيل بينه وببين أداء الحج والعمرة وحيل بينه وبين مصالحه خارج قطر. كان لهذا الوضع أثر عميق في البنية الاجتماعية ذات الخصائص القبلية وهو ما حوّل أزمة الحصار من مشكل سياسي بين أنظمة حكم إلى مشكل اجتماعي يستهدف شعبا دون غيره. هذا التحوّل في طبيعة الأزمة هو الذي يفسر حرص المسئولين القطريين على إصلاح الضرر الاجتماعي قبل الحسم في مسألة المصالحة السياسية.
 
من جهة أخرى لم تكن أزمة الخليج الأخيرة أول الأزمات التي تضرب المنطقة الأغنى في الإقليم العربي رغم خطورتها، وهو ما يجعل من إمكان تجددها أمرا شديد الورود والاحتمال. هذا الأمر هو الذي يفرض على القطريين اليوم أن يضعوا شرط عدم تجدد الأزمة على رأس كل المحادثات والتسويات التي تسعى إلى تجاوزها. لذا فإن القفز على الأسباب التي قادت إليها غير مقبول كما أنّ التعهد باحترام السيادة القطرية يعتبر أهم الشروط التي تجعل من جهود المصالحة الحالية جهودا جذرية وبناءة في طريق فتح صفحة جديدة في العلاقات الخليجية البينيّة. 

الخاسرون من المصالحة 

الثابت الأكيد هو أن الأزمة ككل أزمة قد أفرزت رابحين وخاسرين سواء بالمنطق الرمزي للخسارة أو بشكلها المادي أو الاقتصادي الصرف. من جهة أولى حققت قطر بالحصار ما لم تحققه قبله وذلك على كافة الأصعدة والمستويات فقد نجحت أولا في تفعيل مصادر الانتاج المحلي من المواد الغذائية والسلع الأولية الضرورية وذلك في ظرف وجيز جدا. كما تمكنت من تنويع مصادر الدخل ونسجت شبكة من العلاقات الدولية التي مكنتها من تدارك النقص الحاصل جراء الحصار المفاجئ في كل الموارد الأولية اللازمة لعجلة الاقتصاد والصناعة بشكل خاص. وهو الأمر الذي حولها من دولة مستوردة إلى دولة منتجة لحاجياتها الضرورية.
 
أما الدول المحاصِرة وعلى رأسها السعودية فقد تضررت كثيرا من الأزمة خاصة على مستوى صورة الدولة عند الرأي العام العربي والدولي، وهي التي استنزفت في حروب وصراعات مكلفة مثل الحرب على اليمن. تضرر الاقتصاد السعودي كثيرا وتضررت معه صناعة النفط خاصة بعد الهجوم الذي تعرضت منشأتها النفطية واستنزفت خزينة الدولة بشكل كبير.

 

ليس من مصلحة السعودية اليوم وهي المحاطة بكل أنواع التهديدات أن يكون حزامها الخليجي ممزقا بل إن مصلحة الدولة العليا تفرض اليوم وقبل أي وقت آخر تحصين البيت الخليجي من كل أنواع الهزات والزلازل.

 
أما دولة الإمارات التي تعتبر المهندس الحقيقي للحصار فقد انكشف دورها الاقليمي في زعزعة أمن المنطقة والتورط في مشاريع الانقلاب على الثورات العربية والمسارات الانتقالية في مصر واليمن وليبيا وغيرها من الدول العربية والمسلمة بما في ذلك تركيا. لم تخف دولة الامارات رغبتها في النيل من قطر ومن صورتها الدولية خاصة بعد فوز الدوحة بتنظيم المناسبة الرياضية الأكبر عالميا وهو تنظيم كأس العالم لسنة 2022. هذا الأمر هو الذي يفسر حرص أبو ظبي على إفشال كل مساعي المصالحة بين الدوحة والرياض لأن ذلك يعني ترجع الدور الاماراتي بسبب القدرات التنظيمية الهائلة التي تتمتع بها قطر إلى جانب سمعتها الدولية في ملفات الوساطات وفض النزاعات الدولية بين مختلف الفرقاء.
 
هذا الوضع بمختلف جزئياته يجعل من المصالحة الخليجية طورا ممكنا إذا نجحت الدوحة والرياض في تحييد الخاسرين من المصالحة وفي الوصول إلى إلتزام مشترك يضمن عدم تجدد هذه الأزمات العبثية. ليس من مصلحة السعودية اليوم وهي المحاطة بكل أنواع التهديدات أن يكون حزامها الخليجي ممزقا بل إن مصلحة الدولة العليا تفرض اليوم وقبل أي وقت آخر تحصين البيت الخليجي من كل أنواع الهزات والزلازل. 

قد تلبي هذه الأزمات أطماع البعض في المنطقة وخارجها لكنها في النهاية تعود على البيت الخليجي بكل الأضرار التي تهدد وجوده مستقبلا. إن وضع الخلافات المفتعلة جانبا وطرح كل المشاكل القائمة على طاولة الحوار مع احترام سيادة الدول وسيادة قرارها هو الحل الوحيد الذي يعيد للخليج دوره التاريخي في قيادة الأمة وفي تحقيق أمن شعوبه وضمان رفاه مجتمعاته.