كتاب عربي 21

تونس : الواقعية السياسية على المحك

1300x600

شاركت في مؤتمر "الربيع العربي: الفرص والمخاطر والتحديات"، الذي انتظم مؤخرا بالعاصمة الأردنية عمان، وذلك بمبادرة من المركز العربي للتنمية الديمقراطية. كان المؤتمر فرصة لتقييم مسار الثورات في هذه المنطقة بعد مرور تسع سنوات من الثورة التونسية. وقد تراوحت مداخلات المشاركين في هذه التظاهرة بين التمسك بالخيار الديمقراطي والتأكيد على مشروعية المطالبة بالتغيير السياسي والاجتماعي، وبين التساؤل حول الأسباب العميقة التي تقف وراء سلسلة الانتكاسات والإخفاقات التي منيت بها معظم الثورات العربية..

 

ثمن الثورات

تؤكد الأوضاع التي آلت إليها تجارب كثيرة سواء في دول المنطقة أو في خارجها أن الثورات في الغالب ما تكون مكلفة، وقد تفضي أحيانا إلى دماء وحروب. تقريبا نصف ثورات العالم أو أكثر فشلت في تحقيق أهدافها وتجسيد مطالب الشعوب. كما ترتبت عن الكثير منها حالات مزمنة من عدم الاستقرار استمرت سنوات طويلة. لهذا تعتبر الثورة استثناء وليست القاعدة، وهي اضطرار وليست اختيارا. فالشعوب لو خيرت بين الإصلاح والثورة لفضلت الإصلاح ولو عبر مراحل.
 
الثورة حراك مفاجئ مثل حالة الولادة حينما يحين موعدها لا تستأذن أحدا، سواء تهيأت لها الشعوب أو لا. لكن الثورة أيضا ليست عملية اعتباطية خارج الزمان والمكان والسياق. لا تولد الثورة بدون مقدمات وإرهاصات. فعندما يضيق مجال الفعل، وينتشر الظلم والحيف الاجتماعي، وتتجاوز القبضة الأمنية حدودها، يصبح جزء هام من المجتمع ينتظر الشرارة التي تدفعه نحو الانفجار. أحيانا تتمثل الشرارة في حدث معزول لكنه يتحول في لحظة ما إلى مشهد رمزي يلهم الآخرين بأن لحظة التمرد الجماعي قد حانت. ومن هنا تبدأ التداعيات تتوالى بسرعة مدهشة تتغير بموجبها أنظمة وموازين قوى. عندها يدرك الناس بكونهم يقومون بثورة. 

 

عندما يضيق مجال الفعل، وينتشر الظلم والحيف الاجتماعي، وتتجاوز القبضة الأمنية حدودها، يصبح جزء هام من المجتمع ينتظر الشرارة التي تدفعه نحو الانفجار


ومع هذا الوعي يبدأ التفكير والترتيب لمرحلة جديدة في تاريخ ذلك البلد، تصعّد قيادات جديدة وتوضع أجندات تعد المواطنين بإنجازات كبرى تكون في حجم التضحيات التي قدموها أثناء الثورة. عندها تظهر جليا التحديات وصعوبات التأسيس الجديد. قد تسرق الثورة في الأثناء من قبل أعدائها، أو تنحرف عن أهدافها وتنتكس إلى الخلف وتعيد إنتاج النظام القديم بأشكال وأدوات مختلفة.

لا يعني هذا الحديث إدانة الثورة والثورات، وتأثيم الذين قاموا بها كما يفعل الكثيرون اليوم من خلال لعناتهم اليومية لما أطلق عليه "الربيع العربي". بل إن الغاية من الحديث تحميل المسؤولية الرئيسية للحكام المستبدين الذي ينغلقون على أنفسهم، ويصمون آذانهم ويضعون على عيونهم غشاوة، فيرفضون الاستماع إلى أنات شعوبهم ومعاناتها ولا يستسيغون نصائح بعض العقلاء، ويبقون على هذه الحالة إلى أن ينهار البناء على رؤوسهم وينتقم التاريخ منهم شر انتقام في حالات كثيرة.

 

مأزق النخبة التونسية


لم يعد خافيا بالنسبة للحالة التونسية أن النخبة تعيش مأزقا شديد التعقيد بعد أن توفرت لها فرصة القيادة، في أجواء استثنائية تتسم بسقف عال جدا من الحريات. لم تعد المهمة المطروحة في السياق الراهن رفع شعار الثورة كما يفعل البعض وإنما الانتقال إلى تجسيد ذلك على أرض الواقع من خلال مبادرات وسياسات ملموسة ومقنعة. أي العودة إلى المنهج الإصلاحي الذي يستند على التدرج في معالجة الأوضاع بواقعية لا تتعارض مع الكفاءة والجدوى والمثابرة. وفي تونس تجاذب حاد بين من ناصر الثورة وبين "الكافرين بها". 

كل طرف يستعد من أجل إقصاء الآخر أو على الأقل تحجيم وجوده وإضعاف قوته ونفوذه. وهو صراع طبيعي ومشروع، لكن المشكلة أن الانتخابات لم تعط لأحد الطرفين الأغلبية الكفيلة بتمكينه من السلطة دون اللجوء إلى الطرف المقابل. وهو ما جعل رئيس الحكومة في حيرة من أمره، ويحاول التوفيق بين أجندات متعارضة. ومن هناك تتجه مرة أخرى عقارب الساعة نحو تركيبة سياسية وحكومية تشرك بعض الأطراف غير المرغوب فيها لكن في المقابل قد يترتب عن ذلك غضب ومقاطعة أحزاب من الضروري إشراكها في الحكومة القادمة.

في هذه الأجواء يتعرض رئيس الحكومة إلى محاولات التشكيك في قدراته وأسلوبه في إدارة الاستشارة الحالية. لكن في الأثناء أوضاع البلد تزداد تدهورا وتأزما. وما يخشى أن الجدل الدائر حاليا بين الجميع سيكون على حساب الوعي بضخامة التحديات، وبدل الاتفاق على برنامج سريع ومختصر تتبناه أغلبية برلمانية مريحة تعطي المجال لعملية إنقاذ عاجلة تضع حدا للتراشق بالاتهامات، وتوجه رسائل إيجابية للشعب الباحث عن أصوات عاقلة يقلل أصحابها من الثرثرة ويتفرغون للعمل انطلاقا من منهج إصلاحي وواقعي يتمسك بالأهداف الاجتماعية للثورة، ويتسم بالواقعية والوضوح.