فنون منوعة

"Spirited Away".. حين تودي بنا شهواتنا وننسى أسماءنا

-

Spirited Away (المخطوفة)

 

لم يختطف أحد الطفلة ذات الأعوام العشرة "تشيهيرو"، لكنها وجدت نفسها تذوب دون إرادة منها في مجتمع "المدينة" فأصبحت أسيرة ذلك المجتمع رغما عنها لإنقاذ أبويها اللذان أودى بهما الجشع.

"تشيهيرو" طفلة في عامها العاشر، في الكرسي الخلفي للسيارة المسرعة التي يقودها والدها، الذي انتقل إلى بيت جديد، يحاول الوصول إليه عبر "طريق مختصرة"، ومن منا لا يحب الطرق المختصرة، في حياة أصبح الوصول فيها لكل ما نريد يمر بالطرق الطويلة، لكن والد "تشيهيرو" تاه حتى في الطريق المختصرة ووجد نفسه في نهاية "مغلقة".

 

الأنمي الياباني "الأفضل" على الإطلاق "Spirited Away" لمخرجه هاياو ميازاكي الذي نراه فيلسوفا أقرب منه إلى المخرج، أول فيلم "أنمي" يفوز بالأوسكار، والفيلم الذي حقق أكبر إيرادات في تاريخ السينما اليابانية.

وبلغ إتقان عمل الفيلم إلى درجة أن أعيدت كتابة كلمات الفيلم بالإنجليزية حتى توافق الكلمات حركات شفاه شخصيات الفيلم الناطق باليابانية.

تقف سيارة والد "تشيهيرو" على باب نفق طويل لا يعلم ما في آخره، لكنه وزوجته آثرا دخول هذا النفق، رغم تشبث الطفلة بوالدتها، وطلبها المتكرر بأن يعودا إلى السيارة.

لا تجد الطفلة بدا من ملاحقة خطوات والديها، اللذين يجدان نفسيهما وطفلتها الصغيرة على مشارف مكان مهجور "لا حياة فيه" لكن "رائحته زكية"، وهكذا هو مجتمع المدينة ربما من وجهة نظر المخرج، مكان للعمل لا للحياة، رائحتها زكية، تجذب الجائعين إلى فخ المدينة.

جذبت الرائحة الزكية والد "تشيهيرو" وأمها إلى مطعم مليء بما لذ وطاب، فلم يتمالكا نفسيهما وسيطرت عليهما شهوتهما "الحيوانية" فأكلا وشربا حتى أصبح كل منهما "خنزيرا" في رمزية واضحة للجشع والشراهة، ورميا في حظيرة إلى جانب باقي الخنازير.

 

 

بدأت من هنا رحلة "اختطاف" الطفلة الصغيرة التي أصبحت بلا أبوين، فتلقفها "هاكو" بعد أن بدأت هي الأخرى تذوب في مدينة لا تشبه باقي المدن، فهي مقصد الأرواح والأشباح من كل مكان بحثا عن الراحة، في حمّام "يو بابا" الساحرة الشريرة.

أخبر "هاكو" الطفلة الصغيرة بأنها لكي تحافظ على نفسها في هذا المكان فإن عليها أن تعمل، وعليه تبدأ بالبحث عن عمل، أي عمل، فحين لا تكون الظروف ملك يدك عليك أن تقبل بأي شيء، حتى لو اضطررت للعمل مع "الحيوانات".

لكن "حيوانات" المدينة وسحرتها، لن يتركوا "تشيهيرو" وشأنها، حتى لو كانت طفلة، لا رحمة في مجتمع كل من فيه إما "أشباح" أو "حيوانات"، وعلى الطفلة الخائفة أن "تكتم أنفاسها" فنفس واحد فقط كفيل بأن يكشف "الإنسان".

 



لم تستطع "تشيهيرو" أن تكتم إنسانيتها، فكشف أمرها، واضطرت إلى الهرب نحو "كاماجي" عامل المرجل، أو "عبد المرجل" كما يصف نفسه، لتجد تحت يده عبيدا آخرين، مجموعة من "الحشرات" التي تحمل على عاتقها المسؤولية الأكبر وهي "تسخين الماء" في المرجل.

تطلب "تشيهيرو" عملا من "كاماجي" لكن لا شواغر لديه، فلديه ما يكفي من "الحشرات" التي تعمل بأمره، فتحاول أن تساعد إحداها، فتحمل عنها وقود المرجل الثقيل، فيحجم الباقون عن العمل ويطلبون المساعدة، فيصرخ بها "كاماجي" بأنها لا يمكنها أخذ عمل غيرها، لأن من لا يعمل منهم سوف يسحق ويتحول إلى "سخام".

 


 

 

صورة سوداء للمجتمع المادي، بلون "السخام" الذي يخرج من مرجل الماء يحاول ميازاكي إبرازها في كل تفصيل من تفاصيل فيلمه.


وتبرز شخصية ميازاكي في الفيلم على شكل رفض فكرة العبودية في العمل، فهو يرى أن كثيرين أصبحوا عبيدا، فرسم من مخيلته مدينة كل من فيها عبيد وحيوانات، "يو بابا" ساحرة وكل من في حمّامها عبيد عندها، كتبوا عقودا تخلوا فيها عن أسمائهم مقابل وظيفة عندها، و"كاماجي" عبد المرجل، وعنده جيش من العبيد بدوره.

وقال ميازاكي في أحد مقابلته إنه يرفض فكرة أن يكون عبدا لعمله.

وفي غرفة المرجل، وأثناء حديث "تشيهيرو" مع "كاماجي" تدخل إحدى عاملات الحمّام،  وترى الطفلة الصغيرة، لتبدأ بالصراخ، فكلهم بحسب ما قالت يبحثون عن "الإنسانة" التي أوقعت نفسها في مشكلة، ليطلب منها "كاماجي" أن تقدمها لـ"يو بابا" حتى تطلب منها عملا.

لم تقرر "تشيهيرو" حتى الآن أيا من خطواتها، كلها خطوات مطلوبة منها، ومجبرة على أن تنفذها إذا أرادت النجاة في هذا المجتمع القاسي، لذلك فهي مخطوفة الإرادة، تلتقي مالكة الحمّام، وتطلب عملا وتصر عليه رغم الرفض المتكرر، لتلقي نفسها في شباك "يو بابا" التي توقع معها عقد عمل تحرمها فيه من اسمها، وتعطيها اسما بديلا "سين".

 

حذر "هاكو" الطفلة "تشيهيرو" من نسيان اسمها، وأعطاها إياه مكتوبا في ورقة كانت معها، فهي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تعود بها إلى نفسها، فماذا يبقى منا إذا نسينا أسماءنا؟.

 


 


تبدأ هنا رحلة "تشيهيرو" الحقيقة من مخالطة الحيوانات التي اعترضت حتى على رائحتها، فأخبرهم "هاكو" بأن ثلاثة أيام كفيلة بأن تذهب برائحة "الإنسان" حتى تتقبله "الحيوانات" فردا عاملا إلى جانبها.

تنخرط "تشيهيرو" التي بدأت تخرج من طفولتها، لتصبح امرأة عاملة، إلى جانب نساء ليسوا كالنساء، حلم الواحدة فيهن أن تخرج يوما ما من هذا المكان على متن القطار.

تبدأ الأرواح والأشباح بالتوافد على حمّام "يو بابا"، أرواح وأشباح لكنها غنية، تملك من الذهب ما هو كفيل بأن يدفع عبيد الحمّام لتقبيل مؤخرات الزبائن.

يغني عامل الحمّام ترحيبا بالزبائن:


لن تنسوه بسهولة.. رحبوا بالرجل الغني لقد وصل
لديه مؤخرة كبيرة.. هناك مكان كافٍ للقبل

يبدأ "التقبيل"، ويمنح الشبح الكبير "نو فايس" الذهب مقابل الاهتمام، كانت لديه القدرة على "خلق" الذهب، في مدينة يبحث الكل فيها عن فتات الذهب، لكنه يمثل هنا الشريحة الغنية، التي تملك كل شيء إلا الاهتمام، فيظنون أنهم قادرون على شراء كل ما يشاؤون بالمال، حتى الاهتمام.

 


 

 

تعمل "تشيهيرو" بجد، وتنجح في اختبار الإنسانية، ويتحرر "هاكو" من سحر "يو بابا" وتعود له "روحه"، وتخلص الطفلة الصغيرة والداها من مصيرهما المحتوم، وتعود إلى حياتها بعد أن خاضت تجربة قاسية لطفلة في عمرها، لكن المدينة كما أسلفنا "لا ترحم أحدا".


وفي مشهد الوداع، يطلب "هاكو" أن تسرع خارجة من المكان وأن لا تلتفت، فلا يصح الالتفات عند الهرب، خصوصا إذا كان من مدينة "الحيوانات والأشباح".

رمزيات كثيرة استخدمها المخرج الياباني الفريد أراد أن يوصل كثيرا من الرسائل التي عايشها ربما في بلده اليابان، لكنها تنطبق على كثير من مجتمعاتنا.