كتب

انقلاب الشيشكلي وسيطرة الجيش على الحكم في سوريا

كتاب يعرض لمسيرة سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم في سوريا (عربي21)

الكتاب: عسكر سوريا... وأحزابها
الكاتب: فؤاد مطر، 
تقديم: رياض نجيب الريّس
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى ،أكتوبر2019، 
عدد الصفحات 296 من الحجم الوسط 

 

 
عودة الضباط المبعَدين .. ومنهم أديب الشيشكلي 

في الوقت الذي بدأ بعض السياسيين والضباط الذين كانوا على عداء مع الحُكْم السابق يعودون (أبرز الضباط الذين تمت إعادتهم العقيد أديب الشيشكلي والعقيد حمد الأطرش والرئيس يوسف صومة)، بدأت قيادة الجيش من جهة والحكومة من جهة أُخرى حملة تنظيف لرموز العهد الماضي في الدولة والجيش، وتحضير ملف يتضمن كل ما من شأنه أن يُظهر عهد حسني الزعيم بأنه عهد فاسد وليس لمصلحة البلاد على الإطلاق، خلافا لما زرعه إعلام ذلك العهد في نفوس السوريين من انطباعات جيدة. 

وفي هذا الصدد، بدأ فرز الأوراق التي في خزائن منزل حسني الزعيم وفي مكتبه. وكان يتم تسريب أخبار عهد حسني الزعيم إلى الصحف وكلها حول أموال أُسيء استعمالها. وأنجز خالد العظم وزير المالية في حكومة الأتاسي واللواء عبد الله عطفة وزير الدفاع (وكان وزيرا للدفاع في عهد حسني الزعيم) تقريرا بنتائج التحريات والتحقيقات التي دارت في معظمها حول صفقات أسلحة تم إبرامها.

ولكن القضية الأساسية التي كانت تشغل بال العهد الجديد، هي أن يتسارع الاعتراف به وبالذات من مصر والسعودية، حيث كان للعهد الماضي علاقات في غاية الأهمية مع المملكتيْن.

يقول الكاتب فؤاد مطر: "كان واضحا كل الوضوح أن المملكتيْن لن تعترفا بسهولة، خصوصا بعدما أظهرت بعض المؤشرات أن المملكتيْن المنافستيْن العراق والأردن، ليستا بعيدتيْن عن الانقلاب الذي قام به الحناوي. ونلاحظ في هذا الصدد أنه في اليوم الثالث للانقلاب (السبت 20 أغسطس/ آب 1949) وصل إلى دمشق رئيس الديوان الملكي الأردني عبد الرحمن خليفة، وأبلغ رئيس الحكومة هاشم الأتاسي اعتراف المملكة الأردنية بالوضع الجديد في سوريا، ثم صرح بعد ذلك بأن الملك عبد الله "يرغب رغبة صادقة في أن يرى سوريا دولة مستقلة حرة".

"ونلاحظ أنه في الوقت الذي كانت أنظار المراقبين تتوجه نحو ما سيقرره الملك عبد العزيز آل سعود والملك فاروق، غادرت فرقة سعودية كانت مرابطة في سوريا، وحدثت المغادرة بعد ساعات من حدوث الانقلاب. ولم يكن معروفا من قبْل أن هنالك فرقة في الجيش السعودي مرابطة في سوريا إلى أن نشرت الصحف نبأ المغادرة ومعه صورة بدا فيها وزير المملكة السعودية في سوريا (أي بمنزلة السفير) الشيخ  عبد العزيز بن زيد مُحاطا ببعض الضباط السوريين والضباط السعوديين، الذين كانوا على رأس الفرقة. وبدت مغادرة هذه الفرقة وكأنها موقف اتخذته المملكة السعودية وأرادت أن تقول من خلاله ما معناه، إنّه مادام العهد الصديق زال فلماذا تبقى الفرقة التي تم في الأصل إرسالها كتعبير عن التعاطف مع ذلك العهد"، (ص ص 160 ـ 161 من الكتاب). 

انقلاب أديب الشيشكلي على الحناوي

اعتبر السوريون بقيام عهد جديد برئاسة هاشم الأتاسي تم انتخابه من قبل الجمعية التأسيسية رئيسا للدولة، أنَّ مباركة الجيش العلنية لهذا العهد معناها أنَّه لا انقلابات عسكرية بعد اليوم. غير أنَّ الانقلاب العسكري الثالث في سوريا الذي قام به العقيد أديب الشيشكلي في التاسع عشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 1949، شكل انعطافا جديدا للأحداث السياسية في ظل عدم الاستقرار الحكومي وتنامي البلبلة السياسية، والانشقاقات الوزارية بسبب الخلاف بين مؤيدين للوحدة مع العراق الهاشمي، ومعارضين للوحدة مع العراق، والمنشقين من حزب الشعب الذين شكلوا معا جبهة جمهورية دفاعا عن النظام الجمهوري في سوريا. ويعتبر الحوراني شريكا أساسيا في هذا الانقلاب، بما أنه كان يمثل مع الشيشكلي السياسة السورية المعادية للوحدة مع العراق، لأسباب تعود من وجهة نظر الحوراني إلى فشل انتفاضة رشيد عالي الكيلاني، واستقواء الحكم الملكي الهاشمي بالامبريالية البريطانية، فيما يعتبر الشيشكلي نفسه أنه بطل استقلال لسوريا، كي لا تكون خاضعة لبغداد.

 

من المؤكد، أن الأزمات الوزارية المتعاقبة التي شهدتها سوريا في ظل انهيار الحكم المدني قد كانت سببا مهما في دفع الجيش للانقضاض على السلطة.

 
يقول الكاتب فؤاد مطر: "لمجرد أن سمع أعضاء الجمعية التأسيسية البلاغ، توجهوا على الفور إلى قصر الرئيس هاشم الأتاسي. وسبق بعضهم إلى هناك وفد من ضباط الحركة الشيشكلية أعرب للرئيس الأتاسي عن أن الحركة تستهدف فقط تنحية رئيس الأركان، وأنها تعترف بالشرعية القائمة في البلاد التي تتمثل بالجمعية التأسيسية وبرئيس الدولة. وكرَّر الوفد أمام الرئيس الأتاسي حِرْص الجيش على الابتعاد عن العمل السياسي.

واطمأن الرئيس الأتاسي إلى ما سمعه من الوفد وارتأى بالتشاور مع رئيس الجمعية رشدي الكيخيا وبعض القيادات السياسية، أن يتم تشكيل الحكومة وألا يَحدُث تباطؤ في هذا الشأن. وظهرت في ضوء التشاور ملامح اتجاه تقضي بإسناد مهمة تشكيل الحكومة إلى خالد العظم، الذي قاطع انتخابات الجمعية التأسيسية. الذي أوحى بهذا الانطباع أن العظم عقد وهو في القصر الجمهوري بعد الاجتماع مع الرئيس الأتاسي سلسلة من الاجتماعات مع بعض رؤساء كتل سياسية داخل الجمعية التأسيسية. وبذل العظم جهودا حثيثة لتشكيل حكومة تستطيع مواجهة الموقف، لكن "حزب الشعب" صاحب الأكثرية داخل الجمعية وقف في وجهه، ومن الطبيعي في ضوء ذلك أن يتعثر خالد العظم.

بعد العظم بدأ ناظم القدسي يجرب حظه ونجح يوم السبت 24 كانون الأول (ديسمبر) في تشكيل حكومة.

وسبق قرار الرئيس الأتاسي بكتابة استقالته ورفْعها إلى الكيخيا، ثم استقبال الشيشكلي لعدد من السياسيين، صدور بيان عن رئاسة الأركان بثَّته إذاعة دمشق في وقت متأخر من ليل الثلاثاء (27 كانون أول / ديسمبر)، وأعادت البث في النشرة الصباحية للأخبار يوم الأربعاء (28 كانون أول / ديسمبر). وكان البيان مؤشرا إلى أن الذي حدث هو انقلاب عسكري، وليس الأمر مجرد تغيير رئيس الأركان الذي هو اللواء سامي الحناوي (صص 173 ـ 174 من الكتاب).

ولكن انقلاب الشيشكلي لم يكن خارج سياق نمط الانقلابات العسكرية الصحيحة التي تحركها إرادات الدول العظمى ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ومهما كانت الحوافز والدوافع المختلفة التي تقف وراء هذا الانقلاب، وبخاصة الصراع بين العسكريين والمدنيين حول مسؤولية قيادة المجتمع والدولة والمحافظة على واقعها في الوقت عينه، فإنَّ ميشيل عفلق يُشَكِّكُ في موقف الشيشكلي من أنَّه بطل استقلال سوريا، قائلا بأنه لا يستحق هذا اللقب، "فمع أنه عارض قيام الوحدة مع العراق، فإنَّهُ كان وثيق الصلة بالسعوديين والمصريين والفرنسيين، وكان استقلاله محدودا جدّا، وقد تحدث المتحدثون الفرنسيون عن الشيشكلي على أنه بطل وحدة أراضي سوريا. إن هذا العطف وجد لقيامه بتنفيذ لعبتهم في معارضته لبغداد، ومن ثم للبريطانيين.

وبقدر ما كانت للعوامل الداخلية دور مهم في تفريغ الانقلابات العسكرية الثلاثة المتعاقبة، في ظل مجلس نيابي معاد ورأي عام صامت وغير مكترث، فإنَّ للعوامل الإقليمية والصراعات الدولية للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط دور أساسي في دفع بعض القيادات العسكرية المتنفذة في الجيش، للقيام بانقلاب عسكري له صلات مع قوى أجنبية، فضلا عن أن الصراعات بين العسكريين أنفسهم قد أخذت صورة محاولات انقلابية عنيفة، في سبيل التنعم بامتيازات ومكاسب السلطة وحدها، من دون أن تغير في بنية المجتمع الكولونيالية والتقليدية؛ لأن الانقلاب العسكري مهما كان نوعه يأتي بضابط كبير إلى مركز السطلة والقيادة السياسية للدولة من دون أن تكون له أيديولوجية واضحة، أو أن يكون مهيأ لقيادة دولة، ولا أن يملك مشروعا مجتمعيا، أو برنامجا سياسيا إلخ.

لكن من المؤكد، أن الأزمات الوزارية المتعاقبة التي شهدتها سوريا في ظل انهيار الحكم المدني قد كانت سببا مهما في دفع الجيش للانقضاض على السلطة، فهناك استقالة خالد العظم بسبب التهديدات التي كان يوجهها إليه أكرم الحوراني الناطق باسم الجيش، وهناك تشكيل الدكتور القدسي الوزارة "الانتقالية" في الرابع من حزيران (يونيو) العام 1950، التي يحظى فيها الشعبيون بأكثرية نسبية، حيث تعرضت بدورها إلى صراعات عنيفة بسبب المواقف المتناقضة بين المؤيدين لدستور عام 1950، والذين يريدون قلب الجمعية التأسيسية إلى مجلس نواب وبين المعارضين لها، خصوصا فيما يتعلق بالمادة التي تنص على أنَّ الإسلام سيعلن دينا للدولة، ولم يكن لحزب الشعب موقف واضح من قضية الدين والدولة، سوى الدفاع عن الإصلاح بواسطة القوانين العصرية والتقدمية، والأخذ بالتراث العربي الإسلامي في الحسبان.

 

الإسلام دين الدولة في سوريا

وقد أثار مشروع نص على أنَّ الإسلام دين للدولة، انقساما واضحا بين القوى السياسية المختلفة والمتباينة في منطلقاتها الأيديولوجية، وفي برامجها السياسية، وبنيانها الاجتماعي. فبالنسبة للإخوان المسلمين كان موقفهم مبينا تبيانا بارعا في شعارهم "الإسلام دين ودولة، وقرآن وسيف، جامع ومدرسة /قانون وأخلاق، عدالة وأخوة، حياة وخلود"، وحدد النائب مصطفى السباعي أحد قادة الإخوان موقفه، حين ربط بين مسألة دين الدولة والقومية العربية، قائلا، "إنَّ أية محاولة للسير بسوريا نحو العلمانية والإلْحَادِ والمادية لتشكل خطرا على حاضر العرب ومستقبلهم". 

على نقيض هذا الموقف نجد الطوائف الدينية المسيحية المختلفة قد أدلت بدلوها في هذه المسألة، فرئيس الروم الكاثوليك المطران حريكه حدَّد موقف المسيحيين بوضوح "أنَّ دين الدولة هو الإسلام سواء أَنَصَّ الدستور على ذلك أم لا، لا سيما أنَّ سوريا قد ورثت التشريع الإسلامي للامبراطورية العثمانية"، مضيفا مع ذلك أنَّ إضافة مادة تتعلق بالدين إلى الدستور سيحط من سمعة البلاد. كما عارض فارس الخوري وهو بروتستانتي ورفض أي ذكر للدين، وقال، "إنَّ الدين لله أما الوطن فللجميع". 

 

ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا


أما الأحزاب الأيديولوجية الراديكالية، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الشيوعيون، حزب البعث، فقد دافعت عن دولة علمانية، وجاء في بيان الحزب السوري القومي الاجتماعي من قول أنطوان سعادة نفسه، "إن فكرة تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية لا تتفق، ومفهوم القومية عموما والقومية السورية بصورة خاصة".

"وبعد نقاش اسمتر أسبوعا تم التوصل إلى تسوية تبقي على الصيغة الواردة في دستورعام 1930، وتنص على" دين رئيس الجمهورية الإسلام" ثم أضيفت لتلطيف الرأي العام المحافظ، في المادة الثالثة عبارة تذكر أن "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع". وفي المادة نفسها أعلن أن الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة مرعية، وتضمنت مقدمة الدستور كمنحة أخرى للأحاسيس الإسلامية، والمحافظة، ما نصه: "ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام، فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا".

 

اقرأ أيضا: انقلاب حسني الزعيم وبدايات تدخل الجيش في السياسة السورية

 

اقرأ أيضا: سوريا.. إنهاء حكم حسني الزعيم والتحالف مع الجيش