كتاب عربي 21

جديد التحالفات في تركيا وخيارات أردوغان

1300x600

منذ سريان النظام الرئاسي في تركيا العام الفائت، باتت التحالفات الانتخابية بين مختلف الأحزاب ضرورة وجزءاً من المشهد السياسي في البلاد، بسبب احتياج الأحزاب والمرشحين الرئاسيين إلى كسب نسبة 50 في المئة من أصوات الناخبين، وهو ما يتخطى قدرة كافة الأحزاب الموجودة على الساحة بما فيها العدالة والتنمية.

بدأت التحالفات انتخابية محضة، لكنها مع الوقت اكتسبت شيئاً من ملامح التحالفات السياسية الأطول عمراً وأعمق أثراً، وبحيث تمحورت ظاهرياً حول النظام الرئاسي، بينما كان محورها الرئيس الجوهري هو شخص الرئيس أردوغان.

ورغم أنها تبدلت نسبياً خلال الفترة السابقة بين مختلف المناسبات الانتخابية وما بعدها، إلا أن ملامحها العامة بقيت على حالها: حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية في جهة، وأحزاب الشعب الجمهوري والجيد والسعادة في الجهة المقابلة، مع دعم غير معلن وغير رسمي من حزب الشعوب الديمقراطي للجهة الثانية.

 

حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا منذ 2002، أمام تحد غير مسبوق. فمن جهة، يبدو تحالف المعارضة متماسكاً أكثر من ذي قبل، وقادراً على إحداث الفرق كما ظهر في بلديتي أنقرة وإسطنبول

اليوم، يبدو حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا منذ 2002، أمام تحد غير مسبوق. فمن جهة، يبدو تحالف المعارضة متماسكاً أكثر من ذي قبل، وقادراً على إحداث الفرق كما ظهر في بلديتي أنقرة وإسطنبول تحديداً اللتين فاز بهما الشعب الجمهوري بأصوات التحالف لا بجهده الذاتي. ومن جهة أخرى، تواترت مؤخراً المؤشرات التي تنذر حزب العدالة والتنمية بإطلاق أحزاب سياسية جديدة ستخرج من عباءته؛ ترأسها قيادات سابقة في الحزب، مثل داودأوغلو وعلي باباجان. ومن جهة ثالثة، لا يضمن الحزب دائماً توجهات وتصويت أنصار حليفه الحركة القومية، فضلاً عن أن قوة الأخير لم تعد كالسابق بعد أن انشقت عنه قيادات وازنة أسست الحزب الجيد الذي أثبت نفسه في الساحة السياسية.

يعني ذلك للعدالة والتنمية الكثير، لا سيما مع منحى التراجع النسبي له منذ عام 2015، وفي مقدمة ما يعنيه أن انتخابات 2023 الرئاسية والبرلمانية لن تكون بسهولة سابقاتها، فضلاً عن أن تكون مضمونة النتائج، كما يعني أن المشهد السياسي قد لا يصمد حتى ذلك التاريخ، وقد تذهب البلاد إلى انتخابات مبكرة (بطلب من المعارضة أو حتى العدالة والتنمية نفسه) لا يمكن التكهن بنتائجها.

 

المشهد السياسي قد لا يصمد حتى ذلك التاريخ، وقد تذهب البلاد إلى انتخابات مبكرة (بطلب من المعارضة أو حتى العدالة والتنمية نفسه) لا يمكن التكهن بنتائجها

إزاء هذه الرؤية، وضع العدالة والتنمية لنفسه استراتيجية من ثلاثة مسارات: تقوية تحالفه، ومحاولة كسب أعضاء جدد له، والعمل على تفتيت تحالف المعارضة أو إضعافه، والسعي لتثبيت قاعدة الحزب الجماهيرية والانتخابية.

ولأن الشق الأخير يتطلب عملاً أطول مدى وأكثر تفصيلاً، مساره الرئيس عملية تغيير وتجديد واسعة لم يبدأها الحزب بعدُ وإن وعد بها، فإن تركيز أردوغان والحزب يبدو منصبّاً حالياً على منظومة التحالفات، وهو ما يمكن رصد الملحوظات الرئيسة التالية بخصوصه:

الأولى، التركيز على حزب الشعوب الديمقراطي بعدِّه الحلقة الأضعف في التحالف (هو خارجه رسمياً)، بسبب وضعه القانوني وارتباطاته مع العمال الكردستاني. ولعل من أبرز معالم الضغط على الأخير "اعتصام الأمهات" أمام مقر الحزب الرئيس في مدينة دياربكر للمطالبة بعودة أبنائهن من معسكرات العمال الكردستاني في الجبال، بعد اتهام الشعوب الديمقراطي بالتواطؤ لاختطافهم أو خداعهم للانضمام للكردستاني. ولئن بدا الاعتصام تلقائياً من عوائل الأطفال/ الشباب، إلا أن العدالة والتنمية يواجه اتهامات بأنه من يقف خلف الاعتصام أو على الأقل يدعمه ويستثمره سياسياً.

الثانية، المرتبطة بما سبق، الضغط على الحزب الجيد (القومي التركي) وتحالفه مع الشعب الجمهوري من خلال عامل الشعوب الديمقراطي، وصولاً للتودد للحزب ومحاولة استمالته. وقد رصد المتابعون عدة إشارات مبدئية لتجاوب الحزب الجيد مع ذلك، أولاً بالتأكيد على رفضه لتحالف الشعب الجمهوري مع الشعوب الديمقراطي إن حصل، والتهديد بموقف مختلف حينها، وثانياً بـ"المصافحة الدافئة" بين أردوغان وميرال أكشنر في احتفالية "عيد النصر" نهاية آب/ أغسطس الفائت، وثالثاً من خلال عدة تصريحات وتلميحات من قيادات في الحزب الجيد.

الثالثة، ما رشح عن لقاء أردوغان مؤخراً برئيس حزب السعادة تميل كاراموللا أوغلو، والذي لم ينفه العدالة والتنمية أو الرئاسة، من اقتراح أردوغان على الأخير "يجب أن نعمل سوياً"، وأن اللقاء سار ثم انتهى بطريقة ودية، رغم الخلافات الكبيرة بين الطرفين. وهو أمر قد يفتح الباب مستقبلاً على إمكانية التعاون بين الحزبين، أو على الأقل ابتعاد السعادة عن تحالف المعارضة، خلال رئاسة كاراموللا أوغلو أو بعدها.

 

تبقى الورقة الأقوى والأنجع في يد أردوغان والعدالة والتنمية هي الورقة الداخلية، أي العمل على التجديد والتغيير بشكل حقيقي وملموس لدى رجل الشارع، على صعيد الأشخاص والخطاب والسياسات والتحالفات وغيرها، بما في ذلك الحوار مع القيادات السابقة

في الخلاصة، ثمة تركيز واضح من العدالة والتنمية والرئيس أردوغان على محاولة إضعاف تحالف "الأمة" المعارض أو تفتيته. وهي محاولات ما زالت في بداياتها ومن الصعب الحكم على مدى نجاحها، لا سيما وأن المعارضة ما زالت تنعم بأجواء انتصارها الرمزي الكبير في الانتخابات البلدية الأخيرة بفضل تماسك تحالفها، إضافة لرغبتها بالاستفادة من التحديات الداخلية التي يواجهها العدالة والتنمية مؤخراً.

ولذلك، تبقى الورقة الأقوى والأنجع في يد أردوغان والعدالة والتنمية هي الورقة الداخلية، أي العمل على التجديد والتغيير بشكل حقيقي وملموس لدى رجل الشارع، على صعيد الأشخاص والخطاب والسياسات والتحالفات وغيرها، بما في ذلك الحوار مع القيادات السابقة إن لم يمكن احتواؤها تماماً، بما يمكن أن يحافظ على وحدة الحزب قدر الإمكان وتماسك الحاضنة الشعبية خلفه. أما إن فشل الحزب في ذلك أو تأخر فيه كثيراً، فقد لا يستفيد كثيراً حينها من تشتت معسكر المعارضة، هذا إن حصل.