كتاب عربي 21

زلزال الأحد: الرئيس القادم قيس سعيد والهستيريا الفرنسية

1300x600
صعود المرشح قيس سعيد إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية مع المرشح نبيل القروي، وكلاهما من خارج المنظومة الحزبية سواء كانت في الحكم أو المعارضة، كان عنوان زلزال 15 أيلول/ سبتمبر (تاريخ الانتخابات الرئاسية في تونس).

وإذ يتهيأ قيس سعيد للفوز في الرئاسية نظرا لقاعدته الانتخابية المتنوعة والعميقة في الكتل الانتخابية الكبرى والطبقة الوسطى خاصة، أيضا الدعم الذي يلقاه من أحزاب مختلفة، علمانية وإسلامية، وهو ما يزيد في رصيده الانتخابي مع النسق التصاعدي في شعبيته، مقابل المرشح القروي القابع في السجن، فإن ضحايا الزلزال أطراف مختلفة ودرجة الخسائر متفاوتة وتشمل أطرافا داخلية، ولكن أيضا فرنسا الرسمية وحتى الإعلامية.

باستثناء المطلعين على استطلاعات الراي غير المنشورة، والتي استمرت في الإشارة إلى قيس سعيد ونبيل القروي كمرشحين متقدمين على البقية إلى آخر لحظة، في مواصلة للاتجاه الثابت منذ بداية عام 2019 (انظر مقالي في موقع "الواشنطن بوست" قبل يوم من الانتخابات)، فإن الحملة المكثفة لعديد المرشحين والمدعومة بلوبيات مالية وإعلامية دفعت العديد من المراقبين للاعتقاد الواهم بأن "الماكينات" (الآلات) الحزبية، بما فيها أكبرها (أي ماكينة حركة النهضة) وماكينات مرشحي "السيستام")، ستحسم المعركة الانتخابية. ولهذا كان الزلزال صادما وغير متوقع، وأدى إلى حالة إنكار ودهشة وصدمة لدى النخب يوم الأحد. كانت انتخابات حرة ونتيجتها غير معروفة بكل تأكيد، عكس ما يحدث في أنظمة تسلطية عربية أخرى، وحتى إذا استعملت الانتخابات فإنها تفعل فقط من باب التزويق والديكور لا غير.

ومن الواضح أن قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري الذي بزغ نجمه منذ 2011 بحضوره التلفزي المتواتر للتعليق على النقاش حول الدستور والنظام الانتخابي، كان المفاجأة وسط المفاجأة. فقد استطاع حشد "التصويت المفيد" في الأيام الأخيرة، بما جعله يتفوق حتى على نبيل القروي الذي كان في المقدمة طيلة أشهر طويلة.

وسعيد الذي لم يقم بأي حملة جدية، واقتصر عمليا على جولات مع بعض أنصاره في مدن مختلفة والمقاهي دون أي اجتماعات شعبية ضخمة أو لافتات دعائية، ودون أي ميزانية ضخمة مثل ميزانيات العديد من الأحزاب، ودون حتى الحضور المكثف في الإعلام، حيث كان أقرب لصورة "الإمام الغائب".. استطاع أن يلتقي مع تطلع عدد واسع من الناخبين الراغبين في صورة رمزية لمرشح متعفف بسيط. ويلتقي ذلك مع حالة الكراهية الشائعة، باطلا أو حقا، تجاه كل السياسيين المتفرغين أو المرتبطين بمؤسسات الدولة، من الحكم إلى البرلمان.

ورغم أن لقيس سعيد برنامجا يدافع عنه علنا منذ 2011؛ يقوم أساسا على "التأسيس الجديد"، أي تقويض النظام الانتخابي وتحويله إلى نظام "مجلسي" منتخب من القاعدة إلى القمة، في قطيعة مع منطوق الدستور، فإن الناخب لم ينتخب البرنامج بقدر ما اتبع رباطا عاطفيا مع صورة المتزهد من أدران السياسة. حتى أن ناخبي قيس سعيد أجابوا، عندما سئلوا في استطلاع غير منشور عن اختيارهم في الانتخابات التشريعية، بأنه "حزب قيس سعيد". ولا وجود لهكذا حزب، والأهم أن قيس سعيد يقاطع (بناء على برنامجه) الانتخابات التشريعية أصلا.

غموض قيس سعيد الذي يحيط به أنصار من خلفيات أيديولوجية متنافرة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بمعاني اليمين واليسار التقليدية، يجتمعون أساسا حول تأويل محافظ للدستور وتركيز قصووي على التمثيل القاعدي، وعلى قاعدة فكرة سياسية هي استعداء النخبة السياسية والإعلامية الاقتصادية القائمة.. يحيلنا على ردة فعل الطرف الدولي الأكثر انشغالا بالشأن التونسي، أي فرنسا. إذ تواجه فرنسا في المنطقة المغاربية وضعية صعبة، ويبدو أن الملف التونسي سيضاف إلى محور الملفات التي تستوجب معالجة عاجلة.

إذ تمر باريس بعلاقات سيئة مع النظام الجزائري ممثلا في قايد صالح، والذي قام مثلا مؤخرا بفسخ عقد توريد القمح الفرنسي وتعويضه بالقمح الروسي، وليست العلاقات أفضل مع الحراك الجزائري في الشارع الذي يعيد بشكل روتيني التذكير بالدور الفرنسي السلبي في صناعة الحكم في الجزائر. كما تواجه باريس أيضا مأزقا جديا في ليبيا، بوضع بيضها في سلة حفتر وتورطها في النزاع العسكري الميداني في حرب كانت تعتقد أنها ستُحسم في ظرف أيام. ويضاف الآن إلى ذلك الوضع في تونس، حيث يتهيأ للصعود لسدة الرئاسة المرشح قيس سعيد الذي يزيد قلقها بشكل واضح.

تبين ذلك في تعليقات إعلاميين فرنسيين بارزين، مثل جون بيار الكاباش الذي خصص جزءا من تعليقه على قناة "CNEWS" الفرنسية، إثر إعلان النتائج لتصوير مباشرة، للحديث عن قيس سعيد كخطر داهم وأنه "إسلامي أصولي"، مقابل القروي الذي صوره أساسا كخيار حيد لحماية الحداثة. كان ذلك فقط مؤشرا أوليا لموقف فرنسي رسمي؛ يبدو أنه تفاجأ بشكل كبير بما حصل.

إذ نقلت وسائل إعلام تونسية تعبير فرنسا عن رغبتها في إجراء الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها "بشكل حيادي"، حسب ما صرح به وزير خارجيتها جان إيف لودريان. وقال لودريان في مداخلة له بقناة "إس نيوز" الخميس: "نرغب في أن تتم هذه الانتخابات بشكل حيادي لا يسمح بالتشكيك بالنتائج"، متابعا بالقول: "قلنا للسلطات التونسية إننا نرغب في أن تتم الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في أفضل ظروف من الحيادية".

والمعنى واضح هنا، وبمعزل عن تفاصيل وضعية القروي وإمكانية توظيف القضاء من قبل الحكومة للتسريع بسجنه، فإن المعنى هو الضغط لإطلاق سراح المرشح نبيل القروي حتى يخوض حملته الانتخابية، خاصة أن استطلاعات الرأي غير المنشورة تشير إلى خسارته نقاطا إذا بقي في السجن أكثر مما حصل حتى الآن.

الحقيقة أن تصريحات وزير الخارجية الفرنسي الداعية ضمنيا لإطلاق سراح نبيل القروي، وقبلها تعليقات اعلاميين فرنسيين الهستيرية هي:

- أفضل وأقوى حملة انتخابية لقيس سعيد.

- أسوأ حملة مساندة لنبيل القروي.

-دليل دامغ على حالة التيه للخارجية الفرنسية التي لم تدرس جيدا نتائج الاستطلاعات التي كانت تصلها، واستمعت إلى الأصوات التي كانت تطمئنها بأن قيس سعيد حالة صوتية سينهزم أمام الماكينات..

على القسم الدبلوماسي والاستعلاماتي الفرنسي المعني بالملف التونسي الاستقالة، عوض الدفع نحو هذه التصريحات الخرقاء.

المشكلة أن الموقف الرسمي التونسي لم يتجنب الرد كما يجب على هذا التدخل السافر فقط، بل تورط في محاولة رئاسة الجمهورية التأثير على قاضي التحقيق في قضية القروي لإطلاق سراحه. والأكثر من ذلك، توجد مساع من مرشحي "السيستام" للطعن في النتائج وإبطالها. في المقابل، لن يكون من الصعب أن نتوقع أن موجة ثانية من الزلزال يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، موعد الانتخابات التشريعية التي ستسبق الدور الثاني للرئاسية (المرجح الآن في 13 تشرين الأول/ أكتوبر)، لتؤكد أن المشهد السياسي والحزبي الراهن سيتغير راديكاليا، ليس بالضرورة نحو الأحسن، لكن بالتأكيد ما قبل زلزال الأحد لن يكون البتة ما بعده.