قضايا وآراء

المغرب ورهان التعاقد الاجتماعي الجديد

1300x600

شَدَّد العاهلُ المغربي في خطابين مُتتالين مرتبطين بعيد الولاء وذكرى ثورة الملك والشعب، على مفهوم "التعاقد الاجتماعي" الجديد، في إشارة واضحة إلى ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال اعتماد رؤية جديدة مختلفة لنمط التنمية، وطرق توزيع ثمارها على المواطنين..

والواقع أن هاجس التجديد عبر الإصلاح والسعي إلى التغيير ظل متغيرا ثابتا خلال العقدين المنصرمين من حكم الملك "محمد السادس" (منذ 1999)، كما ظلت المسألة الاجتماعية والحاجة إلى تنزيلها المنزلة ذات الأولوية لازمة في الخطب الملكية، ومتكررة في مجمل المناسبات الوطنية.

 

ظلت المسألة الاجتماعية والحاجة إلى تنزيلها المنزلة ذات الأولوية لازمةً في الخطب الملكية، ومتكررة في مجمل المناسبات الوطنية

لنتذكر دعوة العاهل المغربي في مستهل ولايته إلى "المفهوم الجديد للسلطة"، وتشديده المتكرر على بناء علاقة متوازنة وفعالة وشفافة بين الإدارة والمرتفقين، أي المواطنين. ولنتذكر صدور "تقرير الخمسينية" في مستهل حكمه، والخلاصات الدقيقة والمنبهة لتعثر مسيرة التنمية في البلاد، والدعوة إلى الإصلاحات العميقة الواجب إدخالها بإرادة وشجاعة لا رجعة فيهما. ولنتذكر كل المشاريع المُهيكِلة التي أقدم عليها المغرب خلال هذين العقدين، ولنتذكر أيضا الوثيقة الدستورية لعام 2011، التي راهن عليها جل المغاربة لتعبيد الطريق أمام انغراس فكرة الديمقراطية وتوطيدها في المؤسسات والثقافة السياسية.

ليس حال المغرب اليوم في حجم التطلعات والطموحات التي واكبت العقدين الماضيين، وهي ملاحظة لا خلاف حولها، وتحظى بما يشبه إجماع النخب وعموم المواطنين. فخطب العاهل المغربي، منذ عقد من الزمن على الأقل، ما انفكت تنبه إلى الاختلالات الحاصلة في البناء الاجتماعي المغربي، وتتساءل بحيرة كبيرة: أين ذهبت ثروات المغرب؟ ولماذا لم يلمس الناس كافة آثار التنمية في حياتهم عموما، ومعيشهم اليومي تحديدا؟ طبعا الجواب واضح، وتُدرك النخبة السياسية مصادر الإجابة عنه، ويعرف المواطنون بحسهم الطبيعي ومعايشتهم اليومية لمنحنيات تقهقر أوضاعهم الاجتماعية؛ الأسباب المفسرة للفجوة بين التنمية ومشاريعها، والآثار الإيجابية المفترض انعكاسها على حياة المغاربة كافة.

 

أين ذهبت ثروات المغرب؟ ولماذا لم يلمس الناس كافة آثار التنمية في حياتهم عموما، ومعيشهم اليومي تحديدا؟

ثم إن التشخيصات التي تضمنتها الخطب الملكية عموما، والخطابان الأخيران تحديدا، تضمنت ما يكفي من المعطيات والتحليلات للمساعدة على فهم العِلل والأسباب.. كما أن المؤسسات الدستورية ذات العلاقة، أو التقارير المُعدة لهذا الخصوص، كشفت باستفاضة الأعطاب التي جعلت التنمية في المغرب غير مُعممة على مكونات المجتمع، وعاجزة عن زرع الثقة في أن المغرب بمشاريعه الكبرى يسير تحو النماء العام، واقتسام الخيرات بقدر معقول من العدالة والتكافؤ بين المواطنين.

فكما أسلفنا القول، جاء تقرير الخمسينية واضحا في خلاصاته، ودقيقا في توصياته واقتراحاته، كما حذرت كل تقارير "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي"، من حجم الاختلالات الحاصلة في البنيان الإجماعي المغربي. والأمر نفسه أكدت عليه وثائق "المجلس الأعلى للتعليم"، والهيئات السابقة عنه، علما أن العلاقة بين التعليم والتنمية تلازمية، حيث لا توجد تنمية شاملة ومنتجة لفائض القيمة، بتعليم متعثر إن لم نقل فاشلا.

 

العلاقة بين التعليم والتنمية تلازمية، حيث لا توجد تنمية شاملة ومنتجة لفائض القيمة، بتعليم متعثر إن لم نقل فاشلا

ستُشكل في قادم الأيام لجنة توكل إليها مهمة إعداد تقرير حول "المفهوم الجديد للتنمية"، الذي يُعول عليه تحقيق النقلة الاجتماعية والتنمية التي رسمت خطوطها الكبرى الخطب الملكية. ودون شك، ستضم اللجنة في عضويتها كفاءات ذات خلفيات وخبرات في حجم المهام المسندة إليها، وستشتغل وفق التوجيهات الواردة في الخطابين الملكيين الأخيرين، وهي مطالبة وفق صريح الخطاب الملكي بمناسبة عيد الولاء؛ بأن تتحلى بالجرأة والشجاعة وتقديم الحقائق ولو كانت مرةً ومحزنة.. وماذا بعد؟ هل تستطيع تقديم نموذج جديد للتنمية يقطع تماما مع القديم الذي أوصل، المغرب إلى أوصله إليه؟ وهل سيكون بمستطاع أعضائها اعتماد لغة الصراحة، والتحلي بالجرأة والإقدام في اجتراح الطرق والأدوات القادرة على ردم الفجوات الاجتماعية التي ألمّت بحياة المغاربة، وأضعفت قدرتهم على الانطلاق في مسارات التنمية منذ عقود؟

ليس في مُكن كاتب هذا المقال الحديث عن النموذج التنموي الجديد المطلوب، والقادر على تحقيق نقلة نوعية في المغرب؛ لأن ذلك ليس في صلب تخصصه، فالاقتصاديون ومن يشتغل في تماس معرفي معهم أقدر على الحديث والكتابة عن هذا النموذج، غير أنه، بالمقابل، يستطيع الإشارة إلى المتطلبات التي بدون الاهتمام بها بشكل جدي، لن تكون اللجنة ولا المغرب عموما قادرين على الانتقال إلى تكريس المفهوم الجديد للتنمية وتوطينه في المؤسسات والثقافة. لذلك، هناك مصفوفة من المتطلبات المفاتيح، نكتفي إلى بعضها بحسب الأهمية:

لكي يجُبّ النموذج الجديد للتنمية سابقه عليه بالضرورة أن يُؤسس على فلسفة جديدة بروح جديدة وأدوات ومنهجيات جديدة.. على النموذج الجديد للتنمية أن تكون رافعته الأساسية العدالة وتكافؤ الفرص، وهو ما يعني إعادة النظر في توزيع الثروة الوطنية ونواتجها.. وهو ما يعني بالضرورة إيقاف نزيف الفساد، الذي استشرى في كل مفاصل البلاد وأصبح ثقافة، ومحاربة اقتصاد الريع والإثراء بغير حق.. كما أن من متطلبات قيام النموذج الجديد للتنمية الإصرار على الخروج من دائرة الفشل الذي المّ بالتعليم بكل أطواره، فمن المستحيل تصور تنمية ناجحة بدون تعليم ناجح وناجع وفعال وعصري.. وإلى جانب هذين المتطلبين، هناك متطلب ثالث له قيمة إستراتيجية قصوى، وهو امتلاك البلاد بكامل مكوناتها مشروعا مجتمعيا واضحاً ومتوافقا حوله، يستنهض إرادات الجميع ويمدهم بمصادر القوة والأمل في تحقيق التعاقد الجديد..

إن المشروع المجتمعي هو القوة المعنوية الكبيرة، القادرة على إنجاح النموذج الجديد للتنمية.. وكل التجارب الناجحة في العالم خلال العقود الخمسة الأخيرة توفرت لها هذه المتطلبات مجتمعة، سواء في آسيا، أو بشكل متأخر في بعض الدول الأفريقية جنوب الصحراء.