قضايا وآراء

حين اعتذر سلمان العودة أيضا

1300x600

تكون كلمات الاعتذار رقيقة مذهبة حين تصدر عن إرادة حرة. ففي الاعتذار شجاعة، والاعتراف بالحق فضيلة، ومراجعة المواقف من شيم الأقوياء. وكان يمكن أن يكون اعتذار الشيخ عائض القرني جميلا ومؤثرا؛ لو أنه خلا من الحشو السياسي الذي شكك في دوافعه الحقيقية. ولأن ثقافة الاعتذار غائبة عن مجتمعاتنا العربية، فإن مقارنة بين اعتذار القرني واعتذار آخر صدر عن الشيخ السجين الدكتور سلمان العودة في فترة سابقة؛ تكون مفيدة لفهم كثير من الأمور في هذا السياق.

نشر الشيخ سلمان العودة قبل سنوات اعتذارا واضحا بلغة أدبية في مقاطعه البصرية، تحت عنوان "آسف"، التي نشرها عبر برنامج "وسم" على وسائل التواصل الاجتماعي. كان ما يشبه الاعتذار الاجتماعي العام، مبطنا باعتذار شخصي لكل شخص أساء إليه، ومنهم والدته ووالده وسائق سيارة أجرة ركب معه يوما. وكان جوهر الرسالة هو التشجيع على ثقافة الاعتذار، وتأصيلا شرعيا لها في مواقف عديدة ذكرها من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأطهار. كما عرض لثقافة اعتذار السياسيين والقادة عبر العالم في الدول المختلفة، مثل إمبراطور اليابان والرؤساء الأمريكيين، مثل نيكسون وكلينتون.

 

هناك ما يدعو لتشكك حقيقي في صدقية هذا الاعتذار، وما إذا كان صادرا بالفعل عن إرادة حرة أم تحت سيف الإكراه

وبعيدا عن المواقف الشخصية والسياسية، طبق الشيخ سلمان العودة نفس المبدأ على نفسه وأفكاره. فأعلن مرارا وتكرارا، في مقال منشور وأحاديث صحفية، عن اعترافه بالخطأ في نشره كتاب "حوار هادئ مع محمد الغزالي". وأقر بأنه لو استقبل من أمره ما استدبر، ما كان ليفعل ذلك. واستفاض شرحا في أنه (أي العودة) كان بعيدا عن منهج السلف الصالح والعلماء في تتبع ما يراه عثرات عالم له إسهام دعوي وفكري كبير؛ لم ينتبه للإشراقات التي تحملها كتاباته إلا متأخرا. وقد نزلت مواقف وعبارات الاعتذار بردا وسلاما على جمهور سلمان العودة الذين لم يروا في اعتذاره انتقاصا من قيمته، بل زاده الأمر رفعة.


لم يستقبل كثيرون اعتذار الشيخ عائض القرني بالحفاوة ذاتها التي استقبلوا بها اعتذار العودة. ولا يعود الأمر برأيي إلى انحياز لآراء الشيخ السابقة في فترة الثمانينيات والتسعينيات، ولكن لأمرين أساسيين؛ أولهما أن هناك ما يدعو لتشكك حقيقي في صدقية هذا الاعتذار، وما إذا كان صادرا بالفعل عن إرادة حرة أم تحت سيف الإكراه. فغير مسموح بالصمت لأي من المشايخ والدعاة المشهورين الذين تعج بهم سجون المملكة الآن، وكل من لا يؤيد ولي العهد محمد بن سلمان علانية، تأييدا أعمى، مكانه السجن أو المنفى، إذا استطاع الخروج. ولن يكون مستغربا أن يكون هذا الكلام من الشيخ القرني وهو تحت تهديد ما. فالرجل لم يعرف عنه أنه من علماء السلطان.

 

هذا الاستقطاب يضيع فرصة حقيقة لمراجعة مطلوبة لمواقف شرعية وفقهية كثيرة اتخذها علماء سعوديون، سواء من المنتمين للمؤسسة الرسمية الدينية هناك، وحتى من غير المنتمين إليها

وثانيا.. هو إقحام الوضع السياسي الحالي في مواقف فقهية شرعية قديما. فما علاقة قطر أو تركيا مثلا بتلك الآراء الفقهية في الثمانينيات والتسعينيات، وقد كانت الأنظمة في كلا البلدين في علاقة وئام مع النظام السعودي؟

من المؤسف حقا أن تضيع عبارات الاعتذار والمراجعة للمواقف وسط هذا الضجيج السياسي، في مناخ أمني قمعي لم تشهده السعودية في تاريخها؛ لأن هذا الاستقطاب يضيع فرصة حقيقة لمراجعة مطلوبة لمواقف شرعية وفقهية كثيرة اتخذها علماء سعوديون، سواء من المنتمين للمؤسسة الرسمية الدينية هناك، وحتى من غير المنتمين إليها، وكان لها تأثير سلبي في حياة كثيرين حتى خارج حدود المملكة. وهو أمر يطرح إشكالية أخرى تحتاج لنقاش أعمق وأكبر، وتتعلق بأهمية استقلال العلماء عن السلطة السياسية. فالتاريخ الفقهي الإسلامي لم يعرف هذا الارتباط إلى بشكل سلبي. ورحم الله أئمة المذاهب الأربعة الذين أخذوا مسافة من السلطة في زمانهم، رغم البطش الذي تعرضوا له، فحفظوا الدين وحافظ الناس على تراثهم من بعدهم.