كتاب عربي 21

شيخ الأزهر وتعثر الاجتهاد الديني

1300x600
ما حصل مع شيخ الأزهر أحمد الطيب، بمناسبة إثارته مسألة تعدد الزوجات، دليل آخر على الأزمة العميقة التي لا يزال يمر بها الخطاب الديني في العالم الإسلامي. هناك إصرار لدى الكثيرين على تأبيد الفهم الأحادي للنصوص المرجعية، وهناك رغبة قوية لدى بعض الأوساط المحافظة في جعل الإسلام متعارضا مع قيمة العدل الذي هو أساس العمران.

ماذا قال الرجل؟ لقد أقر بلغة عربية فصيحة يفهمها الجميع بأربع معطيات منطقية لا غبار عليها، وهي:

أولا: "أولى قضايا التراث التي تحتاج إلى تجديد هي قضايا المرأة؛ لأن المرأة هي نصف المجتمع، وعدم الاهتمام بها يجعلنا كما لو كنا نمشي على ساق واحدة".

ثانيا: "مسألة تعدد الزوجات تشهد ظلما للمرأة وللأولاد في كثير من الأحيان، وهي من الأمور التي شهدت تشويها للفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية".

ثالثا: أن الأصل في القرآن الزواج بواحدة وليس التعدد.

رابعا: إباحة التعدد مرهونة بتحقيق العدل، وذلك في قوله تعالى: "فإن خِفتُم ألا تعدلوا فواحدة". ووصف التعدد (غير المشروط) بـ"الظلم". وأوضح أن حرية التعدد "مقيدة بشروط"، و"إذا انتفى السبب بطلت الرخصة".

هذا كل ما قاله شيخ الأزهر. فكلامه لم يرتق إلى مستوى منع التعدد مثلما فعل غيره، وإنما ربطه بتوفر علة يمكن قبولها من الجهات المختصة، مثل مرض الزوجة، أو عدم قدرتها على الإنجاب. وهي استثناءات شائعة لدى المدافعين عن التعدد.

الغريب أن الرجل في مكانته العلمية وفي مقامه الرسمي المصان؛ اضطر، تحت القصف الذي تعرض له، أن يعلن في سياق الدفاع عن نفسه ضد الهجوم الكاسح الذي تعرض له، أنه لا يجيز تعطيل أي حكم شرعي، وأنه لم يمنع ولم يحرم تعدد الزوجات، ولا يمكن أن يصدر عنه ذلك.

السؤال الذي لا مفر من طرحه في هذا السياق: لماذا اضطر شيخ الأزهر إلى مثل هذا التدارك، حتى كاد أن يدافع عن التعدد ويضفي عليه نوعا من "القداسة"؛ باعتباره حكما شرعيا لا يمكن تعطيله في السياق المعاصر؟ لقد انتصر التيار المحافظ حتى قبل أن تبدأ المعركة!

شهد تاريخ الفكر الإسلامي نزاعا مستمرا بين تيارين رئيسيين: تيار تجديدي أدرك أصحابه ورواده أن من أخطر ما يهدد الدين تجميد مفاهيمه وأحكامه داخل قوالب فقهية وكلامية، تحول دون تفاعله مع متغيرات الواقع والسياق. ولهذا عمد هؤلاء باستمرار إلى تطوير الفكر والفقه، وجعلهما قادرين على جعل الإسلام في خدمة الإنسان، ومواكبا للتحولات العميقة التي تفرضها حركة التاريخ وبناء الحضارات.

في المقابل، تمترس تيار آخر وراء منهج معاكس؛ يعتقد أصحابه أن مهمتهم الأساسية هي "حماية" الدين من مغامرات المجددين وأفكارهم الجريئة.

اتسم الخلاف بين التيارين في البداية بالمسؤولية العلمية والأخلاقية والاحترام المتبادل، مما وفّر فرصة لكي تشهد حركة الفقه تطورا سريعا أقر بأهميته وثرائه المؤرخون المسلمون وغيرهم من المستشرقين. لكن كلما تقدمت عجلة الزمن هيمنت الشكوك، وتراجعت نسبة التسامح لدى التيار المحافظ، وحتى لدى أطراف من حركات التجديد. والصراع الذي انفجر بين المعتزلة والحنابلة دليل مؤلم على الانزلاق الذي حصل، واستعملته أطراف من داخل أنظمة الحكم من أجل إشعال الفتنة والسعي نحو الهيمنة على السلطة. وقد كان من تداعيات ذلك تراجع حركة الفكر، وانخفض سقف الاجتهاد، وانحسرت الشجاعة الفكرية لدى العلماء.

يعلم شيخ الأزهر أن العالم الإسلامي تجتاحه موجات متعاقبة من حالات الردة تقودها تيارات تدعي بكونها حامية للدين والتدين، في حين أن واقع المسلمين عموما، وواقع العرب خصوصا، مكبل بعشرات القيود الموروثة، والتي تحد من قدرته على النهوض والتحرر. ومن بين هذه القيود التردد في حسم القضايا، والخوف من الذهاب بعيدا في طريق الاجتهاد، خاصة في القضايا المتعلقة بحقوق النساء.

في تونس، تجرّأ الرئيس بورقيبة، وكانت له الشجاعة السياسية في أن يضع حدا للفوضى التي سادت عديد المجالات، ومن بينها تعدد الزوجات. لكنه لم ينجح في ذلك لولا وقوف عدد من شيوخ الزيتونية إلى جانبه، وتبنوا بوضوح تلك الإصلاحات الجذرية. بل إن الرئيس التونسي لم ينطلق في وضع التشريعات الجديدة من فراغ، وإنما استند في ذلك على تراث إصلاحي تونسي تراكم منذ أواسط القرن التاسع عشر، مما جعل الإسلاميين فيما بعد يتراجعون عن مناهضتهم لمجلة الأحوال الشخصية، ويصفون ما ورد فيها -خاصة بعد الثورة- بكونها تندرج ضمن التجديد الإسلامي، بما في ذلك منع تعدد الزوجات وتجريم الذين يقومون به.

للأزهريين طموح نحو قيادة المسلمين روحيا وفكريا، لكن لهذا الطموح شروط، ومن بينها تحقيق فهم الواقع، واستنباط الأحكام القادرة على تفعيل الحضارة الإسلامية المتوقفة، ووجود علماء يصدعون بما يعتقدونه صوابا لإنقاذ النساء من مظالم لا تزال تمارس عليهن باسم الدين، ثم يتمسكون بآرائهم ولا يتراجعون إلى الخلف مهما علت أصوات المخالفين.