كتاب عربي 21

مؤتمر ميونخ والوضع الدولي

1300x600

كان يفترض بمؤتمر ميونخ للأمن أن يكون المناسبة التي تعرض فيها الدول الكبرى استراتيجياتها، كما تحدد أهم التحديات والمخاطر التي تواجه الأمن والسلام العالميين.

ولهذا، كان مؤتمر ميونخ نقطة اهتمام قادة الدول، كما الإعلام العالمي، بل كان مرجعاً لمن يريد أن يتعمق أكثر في فهم السياسات الدولية. ولكنه منذ خمس سنوات، في الأقل، بدأ يتراجع من حيث أهميته مضموناً وشكلاً. وما كان ذلك إلا  انعكاساً لما تعانيه أمريكا ودول أوروبا من تخبط وارتباك في استراتيجياتها وسياساتها. وقد وصل التراجع إلى حد عدم القدرة على التقدم بطرح استراتيجيات مدروسة ومفكراً بها جيداً. وذلك لسبب بسيط يرجع إلى عدم وجود استراتيجيات، كما كان الحال في المراحل السابقة، إلا إذا سميّت أية سياسة باستراتيجية.

 

 

منذ خمس سنوات، في الأقل، بدأ يتراجع من حيث أهميته مضموناً وشكلاً. وما كان ذلك إلا انعكاساً لما تعانيه أمريكا ودول أوروبا من تخبط وارتباك في استراتيجياتها وسياساتها


فلو سألنا مثلاً ما هي استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية إزاء روسيا والصين وأوروبا مثلاً، كما كان يفترض بخطاب مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي أن يعكسها في المؤتمر؟ لكن جاء خطابه ليركز على تسويغ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا، وبالرد على الاعتراضات التي وجهتها ألمانيا وفرنسا على هذه الخطوة، فضلاً عن الهجوم الذي شنه على كل من روسيا والصين وإيران وألمانيا. وكان همه الوحيد ترداد ما جاء من تصريحات ومواقف لدونالد ترامب.

وإذا وضع هذا الخطاب إلى جانب خطاب المستشارة أنجيلا مركل، فسيبدو هزيلاً حتى من منظور ردة فعل أعضاء المؤتمر الذين صفقوا بحرارة، وبإجماع، لخطاب ميركل، فيما قوبل خطاب نائب الرئيس الأمريكي ببرود، ولم يجد من يقف ليصفق له غير إيفانكا، ابنة الرئيس، ووزير الخارجية مايك بومبيو وحدهما. وهذا بحد ذاته فضيحة دالة على ما وصلته أمريكا من عزلة، ومن ضحالة وسطحية في الخطاب.

 

مؤتمر ميونخ قد عكس تناقضات أمريكية-أوروبية أكثر مما ظهر في مؤتمر وارسو الأخير، والذي مني بفشل أمريكي ذريع

وبهذا يكون مؤتمر ميونخ قد عكس تناقضات أمريكية-أوروبية أكثر مما ظهر في مؤتمر وارسو الأخير، والذي مني بفشل أمريكي ذريع، فكان همّ نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس أن ينتقد الموقف الأوروبي؛ لأنه لم ينسحب من الاتفاق النووي مع إيران. وقد اعتبر ذلك إضعافاً لحملة العقوبات الاقتصادية، فيما ردت ميركل بأن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي "ليس الطريقة الأفضل لمواجهة أي خطر تمثله إيران"، ولحظت وقوع أمريكا في التناقض حين انسحبت من الاتفاق النووي، ثم في الوقت نفسه انسحبت من سوريا لتترك الساحة خالية لروسيا وإيران. وأخيراً وليس آخراً، راحت ميركل تذكر بمزايا التحالف الذي مثله حلف الأطلسي يوم كانت أمريكا تنظر إلى أوروبا كشريك وحليف لواشنطن، الأمر الذي يكشف عن مستوى التدني الذي وصلته العلاقة الأمريكية-الأوروبية، فضلاً عن تدني مستوى خطاب مايك بنس.

على أن أهم ما تكشَّف عنه مؤتمر ميونخ السادس والخمسين كان تصاعد التوتر بين الدول الكبرى، والتفكك العام في ما بينها من جهة، وتزايد المخاوف من تجدد سباق التسلح، خصوصاً مع انسحاب كل من أمريكا وروسيا من المعاهدة النووية للصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، من جهة أخرى. فقد عبرت الخطابات كلها عن توتر في العلاقات وإطلاق التهم جزافاً، ووصل الأمر إلى حد تهديد بنس بأن أمريكا قد لا تساعد في حماية أوروبا إذا استمرت ألمانيا في استيراد الغاز من روسيا، وفي  حال عدم المشاركة الأوروبية في زيادة موازنات الدفاع في حلف الأطلسي، فضلاً عن هجومه على الخسائر التي تسببها السيارات الألمانية للاقتصاد الأمريكي، وهدد باتخاذ إجراءات عقابية بحقه، فيما ردت المستشارة أنجيلا ميركل بقوة على هذه الاتهامات، إذ أكدت على حاجة ألمانيا لاستيراد الغاز من روسيا، ورفضت هجوم بنس على سيارات ألمانيا التي اعتبرتها مفخرة لألمانيا، بل ذكرته أن شركة بي أم دبليو لها مصنع ضخم في نورث كارولاينا يعود بالمنافع المالية الكبرى لأمريكا.

هذا ولم تكن اللهجة التي رد فيها سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسية ورئيس الوفد الروسي لمؤتمر ميونخ أقل شدة من نبرة مايك بنس، وهو يوجه النقد لروسيا وخرقها للمعاهدة النووية الخاصة بالصواريخ المتوسطة التي عقدت مع الاتحاد السوفييتي، وذلك فضلاً عن نقده للسياسات الأمريكية في عدد من القضايا من أوكرانيا وسورية إلى فنزويلا.

طبعاً لم تكن الخطابات الصينية والأمريكية بعيدة من التوتر الشديد إزاء بعضهما. وكذلك ما ظهر من مشادة روسية-بريطانية، كما بين دول الغرب عموماً وبين روسيا حول أوكرانيا. هذا، ولم تتجنب روما وباريس إخفاء ما بينهما من توتر شديد، الأمر الذي يسمح بالقول أن الوضع الدولي على مستوى القوى الكبرى لم يكن يوماً متفككاً ومتصارعاً ومتوتراً، كما هو في المرحلة الراهنة. فالعلاقات الدولية في حالة من الفوضى والسيولة مما يفترض أن يُقرأ ضمن موضوعات جديدة لا تكون عبئاً على ما ساد من موضوعات حول العلاقات بين الدول في مرحلة الحرب الباردة، ولا حتى في المرحلة التي تلتها إلى مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. فدونالد ترامب ورث علاقات دولية متفككة متضاربة ومتوترة، وفي حالة فوضى وسيولة، ولكنه راح يزيدها، من كل هذا، زخما. ويرجع ذلك إلى ما يحمله من مشروع داخلي أمريكي-أمريكي ومشروع خارجي أخضعه لمشروعه الأول.

 

تصاعد الخلافات والتناقضات الأمريكية-الأوروبية والأمريكية مع أغلب دول العالم، ولا سيما روسيا والصين، من شأنه أن يعطي فرصاً أكبر للشعوب والمقاومات في مواجهة العدوانية الإمبريالية الأمريكية

أما البعد الآخر الذي أخذ يزيد، بدوره، سمات الوضع الدولي إرباكاً جديداً؛ فيتمثل في ما أخذ يحدث من تطوير في التقنية العسكرية الروسية يتفوق على الأمريكية، لا سيما في مجالات الصواريخ.

وباختصار، فإن الوضع الدولي الراهن الذي راح يتسّم بالتوتر في العلاقات في ما بين القوى الكبرى، وفي تصاعد الخلافات والتناقضات الأمريكية-الأوروبية والأمريكية مع أغلب دول العالم، ولا سيما روسيا والصين، من شأنه أن يعطي فرصاً أكبر للشعوب والمقاومات في مواجهة العدوانية الإمبريالية الأمريكية، خصوصاً الإفلات من العقوبات التي تتعرض لها إيران وروسيا وسورية وفنزويلا والمقاومتان في لبنان وفلسطين.

وأخيراً، تبقى ملحوظتان على هامش مؤتمر ميونخ: الأولى انسحاب وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير من المؤتمر في يومه الثاني. ويعود السبب، كما يبدو، إلى ما أُعلن من ترحيب المانيا بإدراج الاتحاد الأوروبي للسعودية على قائمة الدول المتراخية في ما يتعلق بتمويل الإرهاب وغسيل الأموال. وقد جاء هذا التطور ضربة أخرى لمؤتمر ميونخ، وفرض على الجبير أن ينسحب بهذه الطريقة المهينة.

أما الملحوظة الثانية، فتتعلق بالتظاهرة الاحتجاجية خارج المؤتمر على سياسات العسكرة وسباق التسلح، والذهاب بالعالم إلى حافة الهاوية.