قضايا وآراء

إيران بين سوتشي ووارسو

1300x600

شهدت مدينتا سوتشي ووارسو في شرق العالم وغربه، مؤتمرين بارزين في وقت واحد، خلال الأيام الماضية، أعادا إلى الأذهان تموضع المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة، وتبدلاته اللاحقة جغرافيا وسياسيا وأمنيا، فوارسو بعد أن كانت عنوانا للمعسكر الشرقي وحلفه الشهير، أصبحت اليوم في جبهة معاكسة، تمثل الجغرافيا التي تنتمي إليها وإيديولوجيتها الغربية، وليس الإيديولوجيا الشيوعية الشرقية.

بين جبهتين متناقضتين

في المؤتمرين، كانت إيران حاضرة بقوة في جبهتين متناقضتين، فبينما كان يناقش مؤتمر وارسو نظريا سبل مواجهة إيران وتحجيم أو إنهاء برنامجها الصاروخي ودورها الإقليمي، وبالذات في سوريا، بحكم قربها من الأراضي المحتلة، كانت طهران حاضرة في قمة سوتشي، لتثبت حضورها الإقليمي وتناقش مع روسيا وتركيا ما بعد الانسحاب الأمريكي ومختلف الأوضاع الميدانية والسياسية في الأراضي السورية، كأنها أرادت أن تقول للمؤتمرين في وارسو، إنها غير معنية بمداولات اجتماعاتهم والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية الصادرة عنها، وستواصل طريقها.

 

إقرأ أيضا: وارسو ينطلق وسط مقاطعة روسية وفتور أوروبي وحماسة عربية إسرائيلية

لا شك أن مؤتمر وارسو يعكس مساعي واشنطن الحثيثة لحشد أكبر قدر ممكن من الحلفاء في مواجهة طهران، وأنه يشكل ضغطا أمريكيا إضافيا عليها، وقد يؤسس لمرحلة جديدة من الصراع بين الطرفين وحلفائهما، تختلف عن سابقاتها، إلا أنه لا يبدو أن نتائج المؤتمر حققت كل ما كانت تبتغيه الإدارة الأمريكية، فأولا هي لم تفلح في إيجاد إجماع عالمي مطلوب ضد إيران، يضاف كعنصر هام إلى إستراتيجية "الضغوط القصوى"، حيث رفضت قوى إقليمية ودولية كتركيا والصين وروسيا المشاركة فيه، والأخيرتان شركاء الصفقة النووية، والشركاء الأوروبيون للاتفاق أيضا لم يشاركوا على مستوى وزراء الخارجية، وهذا هو الحال بالنسبة لفرنسا وألمانيا، وأما بريطانيا التي شارك وزير خارجيتها "جيرمي هانت" في المؤتمر، عزت ذلك إلى حضور اجتماع على هامشه لبحث النزاع اليمني. ووزيرة الخارجية الأوروبية "كاترين أشتون" أيضا رفضت المشاركة في المؤتمر. 

وثانيا إن وقائع الاجتماعات وتصريحات المحاضرين وبنود البيان الختامي، تؤكد أنها بالمجمل عبارة عن جولة أخرى من التهديد والوعيد بلغة أكثر حدة تجاه إيران، لم ترتق إلى تبني خطط مدونة وبرامج عملية لتنفيذ تلك التهديدات، أقلها أنه لم يكشف عنها. وحديث وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" عقب المؤتمر أن بلاده ستعمل خلال الفترة المقبلة على وضع تصور حول طريقة وقف النفوذ الإقليمي الإيراني، يؤشر إلى أن مؤتمر وارسو لم يتوصل إلى نتيجة عملية بهذا الخصوص، وأنها أوكلت إلى مقبل الأيام. 

 

إقرأ أيضا: مقايضة وارسو: مواجهة ايران مقابل دعم «صفقة القرن»؟

مع ذلك، ولو افترضنا أن المؤتمر قد حقق المنشود الأمريكي بخلقه إجماعا عالميا ضد إيران للتحرك ضدها، فعلى أرض الواقع لا يحدث ذلك تغييرا في قناعات طهران، حيث من المستبعد أن يدفعها خلال المرحلة المقبلة إلى التفاوض والرضوخ للمطالب الأمريكية الـ 12 التي كشف عنها مايك بومبيو في 21 أيار (مايو) 2018، بعيد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وعلى رأس تلك القائمة تعديل الاتفاق النووي، وإنهاء دور إيران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي. 

وذلك لأن القيادة الإيرانية ترى أن السياسة الأمريكية الراهنة، إن لم تهدف إلى تغيير النظام الإيراني، فإنها تريد إفراغه من المضمون، وأنه في نهاية المطاف، المطالب لن تتوقف عن الـ 12 المذكورة "التعجيزية"، لذلك هي على قناعة أن الدخول في أي تفاوض يعني بالضرورة الولوج في نفق تنازلات "مؤلمة"، لا نهاية له، دون أي مقابل، وهذا ما أكد عليه الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل عدة أيام. 

 

النجاح الأبرز لمؤتمر وارسو تمثل في الوصول بالتطبيع بين إسرائيل ودول خليجية إلى فصولها الأخيرة


ثمة تجارب أوصلت الإيرانيين إلى هذه القناعة، الأولى، فشل الدبلوماسية في حل الخلافات مع أمريكا، ولعل مصير الاتفاق النووي الذي تحول إلى اتفاق من جانب واحد دون مكاسب تذكر، خير دليل على ذلك. والثانية أن إيران أمامها اليوم تجربة مريرة لدول وقوى بالمنطقة في علاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أن تلك العلاقات لم تمنع الأمريكيين من المؤامرات ضد هذه الدول، وفي هذا السياق تمثل التصرفات الأمريكية تجاه تركيا منذ انقلاب 2016 إلى اليوم، مثالا حيا، وذلك بالرغم من علاقات تحالف تربط بينهما منذ عقود مديدة، وكذلك الحال بالنسبة للسعودية أيضا، حيث تتعرض اليوم لابتزازات أمريكية لا نهاية لها، وحتى لم تشفع لها الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، فيتم سن قوانين ضدها في الكونجرس الأمريكي، ويهينها الرئيس ترامب نفسه مرات عديدة عبر استخدام مصطلحات غير لائقة بحقها، ويدرج إسمها ضمن قائمة ممولي الإرهاب من طرف الأوروبيين حلفاء الأمريكان. 

خيار وحيد

بالتالي إيران اليوم ليست أمام رفاهية الخيارات، وخيارها الوحيد هو المواجهة والصمود، لأن سياسات ترامب لا تبقي مجالا لحلول الوسط،، فعليه، يلاحظ أن طهران اتخذت وضعية الهجوم خلال الآونة الأخيرة من خلال الكشف عن صواريخ بالستية جديدة ومصانعها الصاروخية تحت الأرض، وإجراء مناورات عسكرية، وهي تحاول توظيف أوراقها الإقليمية بالتناسب مع إيقاعات مختلف موجات التصعيد الأمريكي، والبحث عن حلول داخلية لمشاكلها الاقتصادية، بانتظار ما ستؤول إليه أزمات ترامب الداخلية ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2021.

أما النجاح الأبرز لمؤتمر وارسو تمثل في الوصول بالتطبيع بين إسرائيل ودول خليجية إلى فصولها الأخيرة، حيث ولأول مرة اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو مع وزراء خارجية عرب في المؤتمر بطريقة مكشوفة وعلنية، لدرجة وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو وجوده بين هؤلاء الوزراء بأنه "صناعة للتاريخ".

ذلك يؤكد أن مؤتمر وارسو كان يهدف من خلال تضخيم "العنوان الإيراني" إلى تدشين مرحلة "السلام والشراكة والتحالف" العلنية بين الكيان الإسرائيلي وعواصم خليجية، ستعقبها محطات أخرى، وربما بمشاركة مستويات أعلى لاحقا، كما كان مؤتمر مدريد 1991، نقطة بداية للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية، أعقبتها أوسلو وشرم الشيخ و...الخ.