مقالات مختارة

الفضائح الجنسية والسياسة: تصفية الحسابات والضحايا العابرون

1300x600

في إبريل/نيسان 2016، أي منذ قرابة العامين، بثت فضائية NTV الروسية عرضا خاصا مدته أربعون دقيقة ملأته بسخاء بمشاهد حميمة وعبارات جنسية خارجة من فيديو سُجل خلسة لرئيس الوزراء الروسي الأسبق، مع مساعدته التي تصغره بزهاء العشرين عاما أثناء لقاء جنسي.

جدير بالذكر (على الرغم من كونه لزوم ما يلزم في رأيي) أن نذكر أن ذلك الرجل كان قبل ذاك قد أنشأ ثم دأب على انتقاد بوتين وسياساته، تردفه في هجومه ذاك مساعدته تلك، عضو اللجنة التنفيذية في الحزب الذي يجمعهما. الفكاهة السوداء تكمن في ما عبرت عنه من دهشتها المقترنة بالفزع والغضب، حين علقت بأنه على الرغم من كون المعروض ربما يولد انطباعا بأن التسجيل التقط في ليلة واحدة، إلا أنها بدرايتها الأقرب بالموضوع، لاحظت أن المشاهد منتزعة من لقاءات عدة تمتد على فترة قد تصل الستة أشهر، أي أن الجهة المراقبة (التي تزعم هي أنها الاستخبارات الروسية بتحريض من بوتين، الأمر الذي أراه معقولا ومقبولا) لم تدخر جهدا ولا حرفية في القص واللصق والمونتاج والإخراج. كل ذلك لتدمير خصم أو اثنين باغتيالهما معنويا، وإرسال رسالة لمن تسول له نفسه مجرد التفكير في الاعتراض بجعلهما عبرة.

لست آتيا بجديد، إذ أقرر أن استغلال الجنس فضحا وابتزازا قديمان في السياسة، ولعلنا جميعا نذكر فضيحة كلينتون مع مونيكا لوينسكي القريبة العهد، حتى إذا وصلنا إلى الدول الاستبدادية، فإنني أكاد أزعم أنها جعلت من ذلك فنا وحرفة تمارسه الدولة مع خصومها، وأقرب مثال يحضرني هو ما اصطلح على تسميته بانحرافات جهاز المخابرات، على زمن صلاح نصر، حتى أن ضابطا تخصص في «العمليات القذرة» ثم صار له شأن كبير في الحزب الحاكم والدولة، استمر حتى أطاحت به التغييرات عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

وإذا كان بوتين يفعل ذلك مع معارضيه فإن نظام كشوف العذرية هو الطبعة الأردأ ، شأنه في ذلك شأن كل شيء، فقد استمر على نهج مبارك نفسه في تسريب فيديوهات وصور تفضح جنسيا لا معارضيه السياسيين فحسب (وهو الأقل) وإنما منافس على مصالح اقتصادية في السوق، وراهب مشلوح ليضغط على الكنسية لتحجم رعيتها، تحسبا لزيارة المخلوع لواشنطن، وهكذا دواليك. لعل المفارقة الطريفة في التسريب الذي نحن بصدده للمخرج خالد يوسف (بفرض أن حكايتنا هذه تحتمل أي نوع من الطرافة) تكمن في أن بطلها يحترف الصورة والإخراج، وقد تعدى مهنة الإخراج ليساهم بطلا من باب المجاز، فهذه القصة لا بطولة فيها، وإنما ضحايا وانحطاط.

ليس بسر ما أسداه خالد يوسف للنظام من خدمات، وما قام به من الترويج للسيسي والتطبيل والتصفيق، إلا أن خلافا نشأ، ويعزوه البعض لتململ أبداه في موضوع تيران وصنافير، وربما نقد بصدد التعديلات الدستورية، ولا أعلم يقينا مدى صحة ذلك، فأنا والحمد للخالق لست بهذا القرب من النظام، ولم أكن يوما قريبا من أي نظام لأتوسط صدر المجالس، محدثا مبشرا بـ»أخبرني اللواء فلان وأسر لي علان القريب من مراكز صنع القرار»، فأنا على باب المولى قانع سعيد بذلك، ولما كنت أتقبل ما تحفل به الطبيعة البشرية ناهيك عن تصاريف السياسة من تضارب، فلست نافيا تماما عن خالد يوسف أن يتخذ موقفا مبدئيا، فشخص ما قد يمالئ وينافق ويمرر الكثير، ثم يصل إلى نقطة لا يستطيع الاستمرار بعدها، آخر الخط كما نستعير في العامية الدارجة.

الحقيقة أنا لا يعنيني في هذه الحكاية خالد يوسف على الإطلاق، ولم آبه بالألعاب الدائرة بينه وبين النظام، فأنا على يقين من أنه سيحل مشاكله آجلا أو عاجلا معه، وسيدفع الثمن أو الأثمان المطلوبة، ثم إذا سقط النظام أو السيسي (ولست أرى ذلك قريبا) وكان ما يزال على قيد الحياة فسيعرف كيف يقفز من المركب الغارق، فيركب الموجة الصاعدة.

ما آلمني وأوقفني هما الفتاتان الصغيرتان، ونحن الناس أو كثير منهم وكيف تعاملوا مع الحدث، لقد طاف الفيديو المسرب وسائل التواصل الاجتماعي، وصارت سيرة الفتاتين على كل لسان كجسديهما العاريين، في المجتمع المحافظ الذي يتسربل بالدين ويحافظ على الأخلاق استمتعنا بتقطيع أجساد الضحايا ونهشها، لست بصدد الدفاع عما أقدمت عليه الفتاتان ولا إيجاد المبررات لهما، لكنني أتعاطف وأتفهم الضعف الإنساني وأرثي لمصيريهما، كما يحزنني بشدة أنهما ذهبتا ضحية صراع لا ناقة لهما فيه ولا بعير،

كم هلل خالد يوسف للنظام، وبالتأكيد لم يخف على منظومة استخباره مزاجه ونشاطاته و»هواياته»، فهي تحصي الأنفاس وتسجل، وكلما زادت الحصيلة من السقطات كان أفضل، فنظام الضباط والانقلاب والثورة المضادة، يستثمر في الفساد ولا يستخدم ويقرب منه إلا الفاسدين، ولا يروق له إلا الذين يستطيع أن يسيطر عليهم بزلاتهم وفسادهم، وقد اختار خالد وغيره أن يرتموا في حضن النظام، ويلعبوا وفق قواعده.

أما الفتاتان فشأنهما أبسط من ذلك كثيرا، لقد أرادتا الشهرة والصعود، ضعفتا، وربما لم يعدُ الأمر طيشا ورغبة، إلا أنهما لم تُتح لهما الفرصة لتختليا وضميريهما، فربما تتحسسان طريقهما للتوبة والندم، أو على الأقل تنعمان بالستر، إذ من سوء حظهما وقعتا في الوسط في صراع مصالح أكبر منهما ومن مداركهما بكثير، فديستا بأقدام أفيال غليظة.

وهكذا هي حال البشر البسطاء في بلداننا، لا ثمن لهم، يعيشون على الهامش ويذهبون ضحايا عرضا، على هامش العرض أيضا، أراد النظام أن يؤدب خالد يوسف، أن يربيه، وربما لم ير فيها أكثر من قرصة أذن، إلا أن فتاتين دُمرتا، عرضا، بلا أي تردد.

من ناحية أخرى فهناك الناس، نحن، نتشدق بالدين والمبادئ، ثم ترى الكثيرين منا يشتاقون ويتلذذون بمشاهد السقوط الإنساني، ويستعذبون مصمصة شفاههم أمام حطام البشر. نحن لا حد لخطايانا، إلا أن الكثيرين منا لا يكفون ولا يستكفون من رمي الآخرين بالحجارة، ولولا ذلك الاستعداد لدينا ما كانت برامج المذيعين الفضائحيين لتلقى نسب المشاهدة تلك والرواج.

لن أسأم من تكرار كم أشعر بالأسى لما لحق بالفتاتين وغيرهما الكثير، ممن نعريهم في الطرقات بأعيننا، ناهيك عن التحرش وكشوف العذرية التي تشكل اغتصابا صريحا من قبل نظام جعل من الامتهان ممارسة ممنهجة، فكل منهن تختزل تركيبة اجتماعية وقيما استهلاكية، وتجسد إدانة لنا ولنفاقنا. لست من السذاجة بمكان لأظنهن ملائكة، فهن لسن كذلك، وأغلبهن لا يزعمن ذلك، إلا أنهن لسن بشياطين أيضا، هن مجرد فتيات يرغبن في الشهرة ومتع الحياة، ربما يكن أخطأن، بيد أن هذه ليست النهاية، إلا أنني أيضا أدين ذلك المجتمع وتلك الأوضاع التي أنتجت تلك النماذج وغذت أوهامهن وطموحاتهن وأرفض تملصنا من المسؤولية الجماعية.

يتعين علينا أن ننظر في أعماق أنفسنا ونسأل عن حقيقة قيمنا ومثلنا وتديننا المزعوم، فالذين صفقوا لكشوف العذرية على المتظاهرات، وللانقلاب والدماء والمعتقلات ليس لهم أن يرموا فتيات فضحوا لتصفية حسابات بحجر، وتبقى في النهاية كلمة عن ذلك النظام الذي لا يعرف كيف يختلف بنظافة وشرف، والحقيقة أن ما يفعله منطقي في نهاية المطاف فرداءته في كل المناحي لم تكن لتكتمل سوى بالفضائح الجنسية، ولعل ذلك درس لداعمي الانقلاب والثورة المضادة من أمثال خالد يوسف من أن آخر خدمة الغز لدى شبهة الخلاف علقة وجرسة، بجلاجل.


عن صحيفة القدس العربي