قضايا وآراء

الإلحاد والعنف "في سبع سنين"

1300x600

يحسب للوثائقي "في سبع سنين" الذي بثته قناة الجزيرة حديثاً؛ جرأة الموضوع الذي يعالجه، فقد اعتمد هذا الوثائقي أسلوب النفاذ إلى الأزمات الفكرية والاجتماعية الكامنة في بنية المجتمع، متجاوزاً طريقتنا العربية المفضلة في التناول الرغائبي والرؤية الانتقائية للأشياء، والسعي دائماً للهروب من مواجهة المشكلات وإضفاء طلاء جميل خادع على الواقع الذي نعيشه.

يعالج هذا الوثائقي الآثار النفسية والفكرية التي خلفها واقع الاستبداد والظلم والقهر الاجتماعي في نفوس فريق من الشباب العربي، متخذاً من صدمة فشل ثورة الخامس والعشرين من يناير وإسقاط حكم الرئيس محمد مرسي ومجزرة رابعة؛ مثالاً. وتضاف إلى الظلم السياسي سلسلة أخطاء اقترفها التيار الديني السائد؛ أفقدت هؤلاء الشباب الثقة في صدق هذا التيار. هذه الأخطاء تمثلت في انحياز بعض الشيوخ إلى السلطة وتبريرهم لممارساتها، وسلبية فريق آخر من المتدينين وإحجامهم عن المساهمة الإيجابية في مشكلات الواقع، وفريق آخر تخلى عن الشباب الثائر في الميدان بسبب حسابات سياسية خاطئة؛ نجحت في تفتيت الوحدة التي حققها ميدان الثورة.

إزاء الإحباط الذي تملّك نفوس هؤلاء الشباب اتخذوا أحد طريقين، فأما الفريق الأول فقد روعته مشاهد القتل والظلم، فدخل في مرحلة شك عميق وفقد الثقة بالإله الذي يسمح بحدوث كل هذا، هذا الفريق يحمل موقفاً عتابياً من الله في أحسن الأحوال إن لم يكن موقفاً عدائياً.. إنهم لا يرون الله في حُجُب سفك الدماء والظلم والقهر وينكرون "صمته".

 

لا أتفق مع النتيجة التي آل إليها كلا الفريقين، إلا أني ألمح موقفاً أخلاقياً كامناً في نفوس هؤلاء الشباب

وأما الفريق الآخر فقد روعته أيضاً مشاهد القتل والظلم، لكنه اتخذ رد فعل آخر وهو اللجوء إلى حمل السلاح والانضمام للجماعات المسلحة، في محاولة لتغيير هذا الواقع وإنهاء الظلم.    

لا أتفق مع النتيجة التي آل إليها كلا الفريقين، إلا أني ألمح موقفاً أخلاقياً كامناً في نفوس هؤلاء الشباب. فالملحد ليس عابثاً في جميع الأحوال، كما تصوره ثقافة التدين التقليدي.. إن الملحد هنا هو إنسان حساس ضد الظلم والقهر الاجتماعي، هو حالم بالعدالة ومتسائل عن الحكمة. إن موقفه الباطن وراء قشرة الإلحاد الخارجية هو السؤال عن إله العدالة والحكمة: "ما دام الإله سميعاً وبصيراً وقادراً، فلماذا لا ينصر المظلومين؟". الملحد هنا قد اتخذ موقفاً إيجابياً في الحياة، متقدماً في رحلته البحثية، وليس في النتيجة، على الأشخاص السلبيين الذين قرروا التكيف مع الواقع وشراء راحتهم الشخصية وإماتة حس النقد والسؤال في نفوسهم.

كذلك، فإن الشباب الذين انضموا إلى العمل المسلح فهم يحملون شعوراً ضد الظلم والفساد والقهر الاجتماعي. إننا نريح أنفسنا من تحمل المسؤولية حين نصور هؤلاء بأنهم إرهابيون أو تكفيريون وحسب، ثم نغفل العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية التي دفعت هؤلاء إلى هذا الخيار. هذا الخيار لم يكن سوى النتيجة الطبيعية للإحباط وفقدان الأمل، فلم يجد هؤلاء الشباب سبيلاً للإصلاح بالطرق السلمية، وضاقت نفوسهم عن تحمل الظلم والفجور الذي يرونه فتفجرت نفوسهم بطاقة من الغضب والانتقام.

كل من الإلحاد والعنف تجليان لمشكلة واحدة، إذ يمثل كلاهما تحدياً للنظم السياسية والاجتماعية القائمة. لقد اختار الملحد التمرد عبر تحدي أقدس ما في المجتمع في رسالة مفادها أنه لا قداسة لإله تنتهك باسمه العدالة وكرامة الإنسان وحقوقه، أما العنفي فقد اختار الاصطدام مع أقوى سلطة في هذا المجتمع رفضاً للظلم والقهر، والرسالة واحدة في جوهرها بين الفريقين.

 

كل من الإلحاد والعنف تجليان لمشكلة واحدة، إذ يمثل كلاهما تحدياً للنظم السياسية والاجتماعية القائمة

هذه المشكلة المزدوجة "الإلحاد- العنف" تنبهنا من جديد أن الاستبداد والظلم هو أبو الشرور ورأس الفساد كله، وأن المعركة الحقيقية التي يلزم أن يحتشد لها المؤمنون والعلمانيون والملحدون هي معركة الحرية وكرامة الإنسان، فالأفكار ابنة ظروفها "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً". إن الظلم هو الذي يغذي أفكار اليأس والإحباط، والعدل يستثير في النفوس أجمل وأرق ما فيها من أحاسيس: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".

قضية الإيمان والكفر ليست قضيةً نظريةً، لذلك لم يحدث عبر التاريخ أن حسم هذا الجدل، وفي كل زمان لا يزال هناك مؤمنون وكافرون من كل فئات الناس وطبقاتهم العلمية والاقتصادية، ولو كان الإيمان أو الإلحاد مرتبطاً بالمعرفة والوعي لرأينا أعلم الناس على رأي واحد، لكننا نرى في العلماء والفلاسفة والمفكرين اختلافاً حسب اختلاف قابلياتهم النفسية وإرادتهم القلبية.

 

من تكريم الله لك أن يمنحك الحرية كاملةً للفعل وتحمل نتيجته، وما دام الإنسان هو الذي يصنع الظلم وسفك الدماء، فإن هذا الإنسان نفسه قادر على إقامة العدل وإشاعة السلام

الإيمان والكفر ذو صلة وثيقة بحالات النفس، والقرآن يربط بين اليأس والكفر، ما يعني أن الكفر هو حالة نفسية وليس قناعةً عقليةً، لذلك فإن مُناخ الأمل والرحمة والحب والعدل يعزز الخير في نفوس الناس ويعرضهم إلى نفحات الله ورحمته.

الله حاضر وقريب، لكن البشر لا يضبطون راداراتهم دائماً لالتقاط إشاراته. إن الله يتجلى في الحب والرحمة بين الخلائق، وفي فطرة النفوس التواقة إلى العدل والحكمة، وفي الطاقة الخلاقة المبدعة التي صنعت الحضارة والعمران، وفي نظام الكون ودقته المدهشة، أما عدم  "تدخل" الله بمعجزة لوقف سفك الدماء ونصرة المظلومين، فهو المقتضى الضروري لحقيقة الحرية الإنسانية.

إن لك أيها الإنسان شأناً مختلفاً عن السماء والأرض والجبال، بل إن لك تميزاً عن الملائكة. فقد حملتَ الأمانة وكنت خليفة الله في هذه الأرض قد استخلفك الله فيها لعمارتها. ومن تكريم الله لك أن يمنحك الحرية كاملةً للفعل وتحمل نتيجته، وما دام الإنسان هو الذي يصنع الظلم وسفك الدماء، فإن هذا الإنسان نفسه قادر على إقامة العدل وإشاعة السلام، ولن يمنع الله الناس في مساحة حريتهم على الأرض من فعل أي شيء أو ضده، ولن يقيد اختياراتهم حتى لو كان اختيارهم الكفر به. إن كنت مؤمناً بالعدل والحرية، فجاهد في سبيلهما وستنتصر.