كتاب عربي 21

رجاء سيدي الرئيس .. لا تفعلها

1300x600

أستبعد حتى الآن ما يروج حول احتمال أن يقدم الرئيس الباجي قايد السبسي على الترشح للانتخابات القادمة؛ بنية تجديد العهدة لخمس سنوات أخرى. أقول ذلك بحكم معرفتي بالرجل، وثقتي في ذكائه وحصافته التي يُستبعد أن تدفعه نحو التورط في مثل هذا الاختيار. لقد سبق أن أشفق هو شخصيا على الرئيس بورقيبة عندما قرر أن يبقى رئيسا مدى الحياة، مما جعل منه في آخر مساره السياسي شخصية فلكلورية تثير الشفقة والضحك، وتم استعماله من قبل المحيطين به لقضاء مآربهم الرخيصة على حساب سمعة الرئيس وعلى حساب هيبة الدولة. ولم يغادر بورقيبة القصر الرئاسي إلا عنوة، وعلى أيدي مجموعة من الأمنيين الذين استعان بهم الجنرال ابن علي، وأمرهم بوضعه في عزلة وتحت الحراسة المشددة. يومها لم يدافع عنه سوى عدد قليل من الموالين له، والذين أسقط في أيديهم وفقدوا القدرة على مساعدته.

 

الجيد أن هناك ممن يحتلون مكانة متقدمة في الصف الأمامي للحزب ليسوا مع هذا التوجه، ويحاولون الدفع في الاتجاه المعاكس

لهذا لا أظن أن شخصية اعتبارية في مكانة السبسي ترغب حقا في أن يتكرر نفس السيناريو معه في ديمقراطية ناشئة مثل تونس. ولهذا، عندما سئل مؤخرا عن إمكانية ترشحه، أجاب: “لست من المؤيدين لفكرة رئيس مدى الحياة.. أنا ضد هذا التوجه.. ليس طموحي أن أبقى رئيسا مدى الحياة". وهي كلمات تعكس ما يؤمن به في أعماقه لكن..

ما يثير الدهشة حقا أن بعض قادة حزب نداء تونس أعلنوا خلال الأسابيع الأخيرة مساندتهم للباجي قايد السبسي في حال أنه قرر الترشح مجددا. وقد أشار إلى ذلك في قوله: "صحيح أن هناك دعوة للترشح، خصوصا من النداء الذي كونته". وأضاف: "زارني أعضاء من النداء، وقلت لهم لن أستجيب للنداء الحالي. ستنظمون مؤتمرا جديدا وعندما تأتون بوجوه جديدة تقوي النداء.. عندها سأرى". الجيد أن هناك ممن يحتلوا مكانة متقدمة في الصف الأمامي للحزب ليسوا مع هذا التوجه، ويحاولون الدفع في الاتجاه المعاكس.

لكن مع ذلك ترك السبسي الباب مفتوحا عندما قال: "اليوم الذي أقرّر فيه الترشح من عدمه، سيكون حافزي الحقيقي هو مصلحة تونس.. إذا كانت مصلحة تونس تقتضي شخصا آخر نساعده في ذلك.. وإذا اقتضت المصلحة وجودي، وقتها سأفكر في الترشح". وهو بحكم ثقافته الدبلوماسية، فإنه في كثير من الأحيان يستعمل لغة قابلة للتأويل، فهو يعقب على نفسه ويؤكد أنه "ليس هناك إنسان صالح لكل زمان ومكان. قمت بواجبي، لكن ذلك لا يعني أنه من الضروري أن أرشح نفسي للانتخابات، بالرغم من أن الدستور يمكنني من ولاية ثانية وأنا لدي حرية التصرف، استعملها أم لا".

ما يجب أن يفهمه الراغبون في مناشدة الرئيس ومحاولة التأثير عليه لإقناعه بالترشح؛ أن تونس في أشد الحاجة إلى الاستقرار السياسي. وكما ذكر هو، لا يوجد شخص مهما علا شأنه غير قابل للتعويض. فتونس لم تخل من أشخاص يتمتعون بصفات قيادية، ويمكنهم أن يترشحوا إلى منصب الرئاسة، ويتدربون عليها من موقع المسؤولية، خاصة وأن النظام السياسي الجديد الذي حدد ملامحه الدستور يقوم على تقاسم الصلاحيات، ويحول دون أن ينفرد رئيس الدولة بنفوذ مطلق.

 

ما يجب أن يفهمه الراغبون في مناشدة الرئيس ومحاولة التأثير عليه لإقناعه بالترشح؛ أن تونس في أشد الحاجة إلى الاستقرار السياسي

قبل الثورة، أجبر التونسيون على الاقتناع بنظرية وهمية تستند على التسليم بضرورة التشبث بالرئيس القوي والزعيم الفذ؛ لأنه بدونه تتجه البلاد نحو الفوضى. حصل ذلك مع بورقيبة، ثم استمر مع ابن علي. كلاهما أصيب بمرض التمسك بالسلطة حتى النهاية، وكانت النتيجة أن الانتقال السياسي تم عبر قناتين هما الانقلاب أو الثورة.

اليوم اختلف الأمر، حيث تعاقب على رئاسة الدولة ثلاث رؤساء بشكل سلمي وديمقراطي. لهذا سيكون القرار الذي سيتخذه الباجي قايد السبسي هاما وتاريخيا. إذ لا يشك أحد في أن الدستور يسمح له بالترشح مجددا، كما أنه لا يزال يتمتع بصفاء ذهني نادر، وبذاكرة قوية، وبذكاء حاد، وبقدرة عجيبة على المناورة، وبحالة صحية جيدة، لكن في المقابل، الزمن لا يرحم أحدا، خاصة ونحن نتحدث عن ست سنوات أخرى لا يعلم إلا الله ما الذي يمكن أن يحصل خلالها. وهو أدرى من أي شخص آخر بثقل المسؤولية، وتعقد شؤون الدولة. وهي ليست أي دولة، نظرا للضعف الذي أصاب تونس، وتعدد التحديات الخطيرة، وكثرة الخلافات التي تشق الطبقة السياسية، وثقل انتظارات التونسيين الذين لم يتمتعوا إلى حد الآن بثمرات الثورة التي أنجزوها، على أمل أن تتحسن أوضاعهم وتطمئن نفوسهم.


يدخل الرجل إلى التاريخ من بابه الكبير، بدل أن يدفعوه نحو البوابة الخلفية للسلطة، حيث يقبع المئات من الرؤساء الذين لفظتهم شعوبهم

هناك أمل لا يزال قائما في ألا يستجيب الرئيس السبسي لدعوات الرئاسة مدى الحياة، وأن يعلن صراحة أنه لن يترشح مجددا ليس بسبب ما قد يطرأ على وضعه الصحي من تطورات سلبية مع تمنياتنا له بطول العمر، وإنما إيمانا بضرورة تحقيق التداول السلمي والديمقراطي على السلطة، أيضا لاعتقاده الشخصي بضرورة فتح المجال أمام تشبيب القيادات السياسية في بلد قامت ثورته على الشباب. وهكذا يدخل الرجل إلى التاريخ من بابه الكبير، بدل أن يدفعوه نحو البوابة الخلفية للسلطة، حيث يقبع المئات من الرؤساء الذين لفظتهم شعوبهم في لحظة يأس وغضب.