كتب

الصراع على سوريا بين أمريكا وروسيا (2 من 4)

قال بأن المشروع الأمريكي يسعى لتفكيك الدولة الوطنية في العالم العربي

التنافس الأمريكي ـ الروسي في الشرق الأوسط ـ الأزمة السورية أنموذجًا
 الكاتب : سلمان الجبوري
الناشر: الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ـ بيروت ـ لبنان 2018


بصورة عامة، الدولة العربية مأزومة، واقعة بين شقي رحى الإصلاح الديمقراطي العميق والمطلوب، أو الثورة على الأبواب. والإصلاح بالقطعة لن يَسُدَّ نهم الشعوب المتعطشة للحرّية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. أما خيار الثورة فهو غالي التكلفة، تتصاعد هذه التكلفة في كل ثورة تالية على ما سبقها.

خيار كارثي

من الملاحظ أيضا أن خيار الثورة يشتبك مع خيار التدخل الأجنبي، وهذا بذاته سيناريو كارثي آخر. كان التدخل الأجنبي في ليبيا هو الدواء المرّ الذي تجرعه الشعب الليبي في بداية ثورته. وها هو الدواء يغدو أشد مرارة في الحالة السورية، ومن قبل في الحالة العراقية. ففي سوريا، الواقعة في "كمين الفوضى العمياء"، حسب تحليل الدكتور عماد فوزي الشعيبي، فإنّ العقبات الأساسية في وجه الحلّ، حسب تحليل الشعيبي، "هي وجود دول لا تريد حلولا شاملة، وأخرى تفضِّل استنزاف الروس والسوريين معا، وثالثة تعتقد أن ميزان القوى يفترض معادلة رابح وخاسر".

 

كان التدخل الأجنبي في ليبيا هو الدواء المرّ الذي تجرعه الشعب الليبي في بداية ثورته. وها هو الدواء يغدو أشد مرارة في الحالة السورية

تصعب قراءة الأوضاع العربية بمعزل عن الأفكار الشرق أوسطية الجديدة التي طرحتها الإدارة الأمريكية السابقة، فالشعوب العربية تستجير من الرمضاء بالنار، فهل خطأ الأنظمة العربية يبرر خطيئة استدعاء التدخل الأجنبي؟ أم إن خطيئة الأنظمة هي سبب ارتكاب خطأ استدعاء هذا التدخل. هكذا بدا العرب مدفوعين على الاختيار المرّ بين الخطأ والخطيئة. مأساة أخرى في تاريخ بلاد العرب. وتجد الشعوب العربية نفسها ممزقة، بين دعاة "الثورة" في الوطن العربي من الشباب الذين لا يملكون أي مشروع فكري وثقافي للثورة يؤسس لمشروع سياسي جديد، ومن الممكن التعويل عليه والاستفادة منه لمستقبل عربي واعد، على الرغم من الوضع الراهن الكارثي المتسم بالتفكيك، وبين القوى الدولية والإقليمية التي استغلت "الربيع العربي" لتنفيذ مخططها المرسوم للمنطقة بهدف التقسيم والتفتيت، عبر استخدام الحركات الإرهابية والتكفيرية، التي قامت بتجييش الصراع الداخلي في سوريا في بعده الطائفي والمذهبي.

الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا

يتحكم في العلاقات الأمريكية ـ السورية، إرث من النفور وعدم الثقة، ويعود السبب في ذلك إلى وجود عوائق مهمة أمام قيام علاقات صحيحة ومفيدة للجانبين. فعلى الرغم من أن العداوة العلنية التي شهدناها في ظل إدارة بوش السابقة كانت أمرا شاذا في العلاقات الأمريكية ـ السورية، إلا أنه نادرا ما كان العكس هو المسار العادي للأمور. فحتى قبل رئاسة بوش، سواء في ظل الرئيس كلينتون أو أسلافه، كانت العلاقة مثيرة للإشكالية ويطبعها الخلاف بقدر ما يطبعها الحوار. 

من وجهة نظر واشنطن، استمرت سوريا في دعم حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية؛ فسوريا تملك أوراقا مهمّة في لبنان والعراق وفلسطين، وهي الحليف العربي الأهم لإيران، وتمارس تأثيرا كبيرا على الحركات الجهادية الفلسطينية و"حزب الله". ومن وجهة نظر دمشق، استمرت الولايات المتحدة في الاحتفاظ بأجندة إقليمية لا تتناسب مع التطلّعات والمصالح السورية.


ومرّت العلاقات الأمريكية ـ السورية منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، بأسوأ مراحلها في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الذي دأبت إدارته على تحميل سوريا مسؤولية زعزعة الأمن والاستقرار في هذا البلد، وإيوائها للقيادات العراقية السابقة، الأمر الذي نفته دمشق على الدوام وأكدت ضرورة التفريق بين العمليات الإرهابية التي تصيب المدنيين والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال. وكانت الولايات المتحدة فرضت على سوريا عقوبات اقتصادية منذ عام 2004، كما أدرجت اسمها على قائمة "محور الشر" حسب ما تسميه. 

 

مرّت العلاقات الأمريكية ـ السورية منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، بأسوأ مراحلها في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش

مع انطلاق قطار "الربيع العربي" في سنة 2011، مرّة أخرى، تجد سوريا نفسها في بؤرة تداعيات هذه المرحلة الجديدة من المشروع الأمريكي الذي يستهدف تفكيك الدول الوطنية العربية، ومتموضعة على خريطة اقتسام الأدوار بين القوى الكبرى. وأفضت محاولات خفض الانخراط الأمريكي في شؤون الشرق الأوسط إلى إطلاق صراع بين القوى الإقليمية الصاعدة، كانت سوريا في بؤرته الرئيسية. وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية استغلال هذا الصراع لتأسيس نمط جديد من توازن الضعف الإقليمي، تعفيها من التدخل في شؤون المنطقة. 

ويتمثل جوهر تلك الاستراتيجية في تقسيم المنطقة على أسس طائفية ومذهبية بين كيانات متناحرة، يستهدف يعضها بعضا، ولا يمكن لأي منها الانتصار والهيمنة، بما يخفض أي حجم تهديد بالنسبة للكيان الصهيوني، ويبقي جميع الأطراف الإقليمية في مدار البحث عن رضا الولايات المتحدة. وكان ذلك هو جوهر الإدارة الأمريكية للمشهد السوري، حتى تمكنت "الدولة الإسلامية في الشام والعراق" (داعش) من تأسيس وجودها الإقليمي الضخم، عبر أراضي كل من العراق وسوريا، لتكون منطقة عازلة أمام تمدد نفوذ محور المقاومة من جهة، وتبقي الصراع المذهبي مستعرا من جهة أخرى.

ومرّة أخرى، كانت سوريا في بؤرة تداعيات هذه المرحلة الجديدة من مشروع الهندسة الإقليمية الأمريكي، الذي تشارك فيه قوى إقليمية خليجية وتركية وصهيونية دؤوبة، لإسقاط الدولة الوطنية السورية، وتقسيم سوريا إلى عدة دول على أساس طائفي ومذهبي وعرقي. 

غير أنّ ما جرى في العراق وسوريا، من تنامي سطوة التنظيمات الإرهابية خلال السنوات القليلة الماضية، يؤكد مرّة أخرى فشل مغامرة الولايات المتحدة ومعها تركيا والمملكة السعودية وقطر، فالوقائع في البلدين العربيين، تثبت أن مدبّري هذه المغامرة العسكرية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، لم يعودوا يسيطرون عليها كذلك. ويتحمل الغرب مسؤولية زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، والمغرب العربي، ما نجم عنها من عواقب وخيمة، لجهة تحطيم الدولتين العراقية والليبية، والعمل على إسقاط الدولة الوطنية السورية التي كادت أن تنهار، لولا وقوف الحلفاء (الروس والإيرانيون وحزب الله) إلى جانبها.

 

مخطط للتفتيت


وما من شك في أن المخطط الأمريكي ـ الصهيوني ـ الخليجي والتركي، من خلال استخدامه أدوات متنوعة ومتباينة (التنظيمات الإرهابية "داعش" و"جبهة النصرة" وأخواتهما من التنظيمات الجهادية الأخرى)، كان يريد تحقيق الاستيطان للإرهاب التكفيري في منطقة الشرق الأوسط، أولا. كما أن هذا المخطط الآنف الذكر أخفق في معالجة جوانب فشل الدولة الوطنية السورية حسب ادعائه، من خلال  إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة الوطنية السورية، عبر تفكيكها إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، تحت مسميات مختلفة، لا سيما في ما عدّته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عوامل فشل في بنية الدولة السورية، خاصة فيما يتعلق بعدم قدرتها على الاستيعاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي لجميع مكونات المجتمع السوري، ثانيا.

 

اقرأ أيضا: صحيفة روسية: هل ينشب صراع عسكري روسي أمريكي بسوريا؟

لقد أسهم مخطط الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، والكيان الصهيوني، وتركيا والدول الخليجية، بشكل كبير في إطلاق عملية زعزعة الاستقرار، وتدمير الدول الوطنية، من خلال توظيف الحركات الدينية الأصولية في المعركة الأولى ضدّ الأنظمة الشيوعية والاشتراكية في الكتلة الشرقية والعالم الثالث على حد سواء. ثم من خلال المراهنة في المعركة الثانية ضدّ الدول الوطنية على تيارات الإسلام السياسي والحركات الجهادية، التي ترفع شعار العودة إلى الدين وتعتمده أداة من أدوات المعركة، لكنّه إنتاج شعار مخادع، كبديل للدولة الوطنية السورية، بعد القبول بمنطق تقسيمها، والعودة الحقيقية إلى البنى التقليدية التي كانت تستند في جزء كبير منها إلى الشرعية الدينية، وقد انهارت من دون رجعة.

إنه رهان خاسر من جانب أمريكا وحلفائها، لأن تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مسمياتها، لا تؤمن بالدولة الوطنية القائمة على التنوع، ومن ثم، فإنّ المراهنة على تلك التيارات الدينية التي تستقطب الأتباع والأنصار بدعوى الثأر لتلك البنى التقليدية ما قبل الدولة الوطنية، وباستعمال الشعارات القائمة على تمثلات طوباوية للماضي، مثل شعارات "الإسلام هو الحل" و"الدولة الإسلامية" و"الاقتصاد الإسلامي" و "البديل الإسلامي"، من أجل أن تكون بديلا للنخب الحاكمة في سوريا وغيرها من الدول العربية، لا يعني فحسب، إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمة القداسة، ولكن يعني أيضا، وبشكل أكثر خطورة، أن هذه التيارات الأصولية لا تقدم أي بديل واضح  لما هو سائد، ويمكن بسهولة أن تتخذ مطية لاستبداله بالأسوأ، فضلا عن إهدارها لمعنى الدولة الوطنية بتنوعها، مما يعبد الطريق لمزيد من الحروب الأهلية، وانهيار الدول الوطنية، وانتشار التطرف و الإرهاب.

 

اقرأ أيضا: الصراع على سوريا بين أمريكا وروسيا (1 من 4)