قضايا وآراء

كيانات جغرافية من دون تقسيم سوريا

1300x600
على الرغم من المشهد المأساوي الذي وصلت إليه الأزمة السورية بعد سبع سنوات من الثورة، ما يزال النظام والمعارضة ينظران إلى تطورات المشهد السوري من منظار الفوز والهزيمة: النظام يعتقد أنه انتصر ومنع المعارضين والإرهابين من السيطرة على الدولة، وأنه يحظى برضى دولي وإن لم يظهر ذلك على المستوى الرسمي، في حين تعتقد المعارضة الرسمية والشعبية أن المجتمع الدولي غدر بالثورة المسلحة، لكنه لن يتخلى عن الثورة السياسية ومطالبها وإن بدا متراخيا على المستوى الرسمي حيال هذه المطالب.

هذه الرؤية هي التي تجعل كلا الطرفين يرفضان أنصاف الحلول، ويتمسكان بمواقفهما الحدية، ولم يدركا أن مطالب كل واحد منهما لن تتحقق كاملة، وإنما سيتم تحقيق جزءا منها: المعارضة تتعامل مع الثورة السورية من منطلق قيمي أخلاقي، فتطلق أحكاما وجوبية ـ معيارية وفق ما ينبغي أن يكون، أما النظام فينطلق من واقعية مفرطة خالية من أي محتوى أخلاقي، فيطلق أحكاما وجودية وفق ما هو قائم بناء على موازين القوى، مفتقدا في قاموسه فكرة الحقوق والعدالة وسيادة القانون.

منذ بداية عام 2013 إلى نهاية عام 2015 كانت الساحة العسكرية تموج بالتقلبات المتناقضة، فثمة أشهر تظهر فيها غلبة المعارضة، ثم لا يلبث أن يحدث العكس فيقوى النظام وتضعف الفصائل المسلحة، إلى أن يحدث العكس مرة ثانية، وظل هذا الوضع على ما هو عليه إلى أن حدث التدخل العسكري الروسي بتفاهم أو برضى أمريكي في سبتمبر/ أيلول 2015.

بدا منذ ذلك الحين، أن ثمة حقائق واضحة لم تنتبه لها المعارضة، أو أنها انتبهت إليها ولكن زمام الأمر فلت من يدها وأصبح بيد الدول الخارجية: أولى هذه الحقائق أنه لن يسمح بإسقاط النظام عسكريا على غرار ما جرى في ليبيا، وثاني الحقائق أن المعارك بين الطرفين يجب أن تستمر إلى مرحلة تصبح فيها البلاد مدمرة عن بكرة أبيها، وأن سوريا ذات الثقل الاستراتيجي لن تكون موجودة على الخارطة الإقليمية، وثالث الحقائق أن الولايات المتحدة غضت الطرف عن التثوير الطائفي والقومي المسلح، فسمحت للتيار السني الجهادي والسلفي  بالامتداد داخل سوريا، في وقت غضت الطرف عن تمدد التيار الشيعي بكل حمولاته العسكرية والأيديولوجية.

تمت تغذية النزعات القومية والطائفية بين أطياف المجتمع السوري، ومورست سياسات أمريكية ساهمت بنشوء وعي سني سياسي/ عسكري زائف ومخالف للواقع، وبنشوء فورة قومية لدى الأكراد مخالفة أيضا لمقتضيات الجغرافية المحلية والإقليمية.

إن انتقال الولايات المتحدة من مرحلة توازن الصراع بين الطرفين السوريين، إلى مرحلة تغليب طرف على طرف عسكريا، لم يكن بسبب قناعات سياسية بهذا الطرف (النظام)، وإنما لأن الأمور وصلت إلى حد لم يعد يُسمح الاستمرار به، فالمطلوب تفتيت الدولة السورية ونشوء شبه كيانات فيها، ولكن ضمن إطار الوحدة الجغرافية السورية.

وأية محاولة لدفع سايكس بيكو جديد إلى الأمام سيؤدي إلى ارتدادات عكسية، ذلك أن سايكس بيكو الحالي حقق دوره في تفتيت الدول العربية من دون أن يحدث انفجارات طائفية أو قومية أو إثنية، في حين أن أية محاولة جديدة للتقسيم ستؤدي إلى انفجار طائفي ـ قومي غير مقبول دوليا، ومن هنا كان لا بد من انتصار النظام عسكريا، من دون أن تكون لديه القدرة على الاستحواذ بالجغرافية السورية على الأقل في هذه المرحلة، كما لن يكون مسموحا له الاستحواذ على مقدرات البلاد الاقتصادية، بحيث يبقى في عجز وأزمة اقتصادية.

ليس هدف الولايات المتحدة نشر الديمقراطية وتحقيق دولة القانون والعدالة الاجتماعية، ولم تكن تلك القيم هدفا سياسيا أو أيديولوجيا للولايات المتحدة، بقدر ما هي إما أداة للتدخل الخارجي، أو سلطة خطاب موجهة للداخل الأمريكي.

الهدف الأمريكي هو القضاء على مكانة سوريا الإقليمية التي شكلت معبرا جيواستراتيجيا في المنطقة، وبعدما تحقق هذا الهدف لا بد من استمرار سورية ضعيفة، وهذا لا يكون بقيام نظام ديمقراطي يعيد إنتاج الدولة والمجتمع، وإنما باستمرار السلطة الشمولية وفق أشكال جديدة، ولذلك يجب على المعارضة أن تهيئ نفسها لمزيد من التنازلات الأمريكية على المستوى السياسي كما فعلت على المستوى العسكري.