كتاب عربي 21

اخترت أن أكون مستشارا.. النقد الذاتي (21)

1300x600

من المهم بمكان أن تختار الدور الذي تحسنه ولكن ليس كل ما تحسنه يمكن أن يأتي كما خططت. هذه مسألة غاية في الأهمية، ذلك أنني كنت دائما أهاب ولا أرغب في أن أشارك في أي دولاب للسلطة، مهما كانت تلك السلطة، وكنت قد كتبت بحثا عن العالم والسلطان؛ أدرس فيه تلك الاتجاهات في التراث السياسي الإسلامي التي كانت تدرس مسألة الدخول على السلاطين. كان ذلك مسألة رمزية تؤكد أن عملية الدخول هي عملية شاقة على أي عالم.. تلك القضية التي كانت مثارة في هذا التراث الممتد. هل تستطيع أن تكون من الزمرة التي تمثل "سلطان العلماء"؟ أم ستكون من هؤلاء الذين ينزلقون إلى درك "علماء السلطان"؟ إنها المعادلة الخطيرة. كذلك من المهم أن أؤكد أنني من هذا الفريق الذي اهتم بالعلم والبحث أكثر مما اهتم بالإدارة وعمليات التنفيذ، وأشهد أن زملاء لي كانوا من المهتمين بالإدارة ونبغوا فيها، خاصة تلك الإدارة التي تتعلق بالبحوث وإنتاجها وإدارة مراكز بحثية وكثير من مناشطها.

عُرضت عليّ مناصب وزارية، ولكنني كنت أمينا مع نفسي فاعتذرت، وربما تستطيع أن تقول أنني تهربت. كان ذلك من الخيارات الصعبة التي دعيت فيها لأن أكون مستشارا في ملفات بعينها، وكان عليّ أن أستجيب

ولكنني أعترف أنني كنت أتهيب الإدارة، وكنت أفضل المسائل التي تتعلق بالبحث والاشراف على الرسائل العلمية ومناقشة المسائل الجامعية وهذه المناشط العلمية. وصحيح أنني عملت فترة في مراكز بحثية كنت أبتعد فيها عن الإدارة والمسائل المالية، وأجد من زملاء لي يقومون بهذا الدور بكفاءة عالية ودقة بالغة، فربما شجعني ذلك على أن أكتفي بدور البحث، وساعدني في ذلك أن انتميت إلى مؤسسات فيها من يدير، ولكنني لم أفتقد يوما ذلك الحس الذي ينتقد الإدارة إذا ما وقعت في أخطاء أو ارتكبت مما لا يحسن في تدبير الأمور. ومن المهم أن أكشف النقاب عن أنه قد عُرضت عليّ مناصب وزارية، ولكنني كنت أمينا مع نفسي فاعتذرت، وربما تستطيع أن تقول أنني تهربت. كان ذلك من الخيارات الصعبة التي دعيت فيها لأن أكون مستشارا في ملفات بعينها، وكان عليّ أن أستجيب.

في فترة الوزارة الأولى التي جاءت بعد ثورة يناير، عُرض عليّ أن أكون مستشارا في رئاسة الوزراء. ولا أكتمكم قولا أنني قد تهيبت ذلك الوضع، وكنت أعتبر ذلك أمرا شاقا، ولذلك كان إصراري على ألا أكون في منصب رسمي، وأن أمارس عملا استشاريا من دون إسناد أو قرار إداري. كان ذلك ما رأيته الأنسب، وفي هذا الوقت قمت ببعض الجهد في محاولة لترشيد بعض الملفات، والإدلاء بالرأي في ملفات، ومعالجة بعض الأمور التي تتعلق بملفات مجتمعية أراها خطيرة، وتتعلق بمشروع الجماعة الوطنية ومعالجة بؤر التوتر الديني التي يمكن أن تحدث أو تستغل أثناء الثورة، سواء للالتفاف عليها أو لإجهاضها أو لوصمها بإحداث حالة من الفرقة بين من يمثلون نسيج ذلك المجتمع ولحمة قواه الوطنية؛ في ملف عرف بالعلاقة بين المسلمين والأقباط.

وجدت في هذا الملف الذي يتعلق بالجماعة الوطنية فرصة مهمة في الحفاظ على شبكة العلاقات الاجتماعية والمجتمعية بعد الثورة، ووجدت في ذلك عملا يجب أن لا أتأخر عنه أو أتخلى عن القيام به بأي حال من الأحوال


قد يحسن أن نتحدث عن هذا الشأن في باب الجماعة الوطنية، ولكنني في الحقيقة وجدت في هذا الملف الذي يتعلق بالجماعة الوطنية فرصة مهمة في الحفاظ على شبكة العلاقات الاجتماعية والمجتمعية بعد الثورة، ووجدت في ذلك عملا يجب أن لا أتأخر عنه أو أتخلى عن القيام به بأي حال من الأحوال، وبدا هذا الأمر بالنسبة لي عملا يتوافق مع ذلك الدور المفضل؛ الذي إذا عمل مع السلطة أن يصب ذلك في عافية المجتمع وتماسكه. كان ذلك تطويرا لتلك الفكرة التي تعلقت بها؛ بأنه يجب علي أن لا أدخل إلى عالم السلطة.

نسيت أيضا أن أذكر أنه قد طلب مني أن أنضم إلى لجنة السياسات، من شخصيات كبيرة في منظومة مبارك، ولكنني رفضت رفضا باتا لأؤكد أن عالم السلطة لا يغريني، وأنني يجب أن لا أنزلق إلى دائرة علاقة مع السلطة مشوبة بالاستبداد؛ يتجملون فيها بعالم الأكاديمية ويتزينون. وذُهلت من هؤلاء الأكاديميين الذين قد اصطفوا في طوابير لجنة السياسات ليأخذوا دورهم طوعا أو كرها.

وكنت في قاعات الدرس أشير إلى النظم الاستبدادية، وعلى رأسها نظام مبارك، وأتحدث عن عموم الناس الذين يحكمون علاقات الاستبداد من خلال قابلياتهم التي تتعلق بحالة اللامبالاة بشأن الوطن وقضاياه. بدا هذا الأمر بالنسبة لي أمرا خطيرا.. أن أخالف هذا الضمير العلمي والسياسي بالانضمام لجوقة المستبد تحت دعوى القيام بالإصلاح من الداخل. كنت أكره هذه الكلمة، ولا أرى فيها أي ظل من الحقيقة؛ حينما أرى مؤسسات الاستبداد قد ترسخت وشبكات الفساد قد امتدت. فالقضية الكبرى أنك لا تستطيع في ظل هذه الظروف أن تحدد دورا إصلاحيا يمكن أن تقوم به، ولكن غالبا ما كنت تُدعى لأن تقوم بدور يتعلق بتبرير شرعية نظام فاسد ومستبد، وهو أمر لم يكن لمثلي. وقد أُوسع نظام مبارك نقدا في قاعات الدرس بعد أن انزلق إلى لجنة سياسات ابنه المدلل؛ حينما أراد مبارك أن يسترضيه بعمل نموذج "ماكيت" للحكومة من خلال لجنة السياسيات، حتى يتلهى به ويتحكم فيه، وكنت أستغرب من أكاديميين في السياسة وقد هرولوا إليه؛ يقومون بأدوار قميئة وبتبريرات قبيحة.

ومن هنا كان هذا الدور الذي يتعلق بمستشار للمجتمع لدى السلطة.. خبرة أردت أن أخوضها بعد ثورة يناير، وعملت - كما ذكرت آنفا - في مجالات تتعلق بالحفاظ على المجتمع ووحدته وتماسكه، وهو مشروع كنا منخرطين فيه مع أستاذنا طارق البشري الذي شكل مشروعُ الجماعة الوطنية كلَّ همه، وبرز مع هذا الدور عملا رصينا قامت به أستاذتنا الدكتورة نادية مصطفى؛ حينما كانت مديرة لمركز البحوث والدراسات السياسية ومركز حوار الحضاراتـ لنؤكد على هذا المشروع الذي يتعلق بالجماعة الوطنية، وما قمنا به من أدوار في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، والعمل مع بعض هؤلاء الذين اهتموا بذلك الملف من مسلمين وأقباط، من مثقفين وأكاديميين.. كان ذلك بحق عمل مجتمعي رصين تناسب مع دور المستشار الذي ذكرته، فتألفت لجنة للعدالة الوطنية، خاصة بعد أحداث ماسبيرو وبعض الأحداث التي صادفت توترا دينيا.. كان من المهم أن نسير في هذا الطريق، نعمل فيه ونؤسس لشبكة علاقاته، ونُخرج هذا الملف من قمقمه الأمني إلى سعة المجتمع وعلاقاته، لنقدم بذلك نموذجا فعالا في هذا المقام.

خبرة أردت أن أخوضها بعد ثورة يناير، وعملت - كما ذكرت آنفا - في مجالات تتعلق بالحفاظ على المجتمع ووحدته وتماسكه

كان ذلك معملا حقيقيا لإدارة التنوع والتعدد وإدارة الاختلاف والمشترك ضمن بوتقة الجماعة الوطنية.. أحسنّا حينا وأخفقنا حينا آخر، ولكن في كل الأحوال اخترت هذا الشأن الذي يتعلق بإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع في إطار سوي، إلا أن هذا الإطار شابه عوار كبير كان يتعلق بحكم العسكر من خلال مجلس عسكري تحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع معا.. كنا نسبح ضد التيار، ولكن الأمر أسفر بعد ذلك إلى ملف يتعلق بالجماعة الوطنية سيكون موضع حديث في سلسلة النقد الذاتي؛ نتبين فيه بعض الإخفاق الذي صادفنا في هذا الشأن، رغم أننا أردنا أن نخرج من مشروع الجماعة الوطنية تنظيرا إلى ميدان بؤر التوتر الديني ممارسة. ربما تخيلنا أننا نجحنا، ولكن الحقيقة المرة التي جاءت بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو ربما تكون قد سارت في طريق إسقاط هذا المشروع ونقضه - للأسف الشديد - في دولة الاستبداد العتيد.