كتاب عربي 21

إلى متى سيستمر العالم في العيش مع الأزمة السورية؟

1300x600

يحوم حول رأس العالم سؤال واحد، حيوي بالنسبة للشرق الأوسط وبالنسبة للعالم بأسره: هل بإمكاننا الاستمرار في العيش مع الأزمة السورية؟

 

بقدر ما ظل هذا السؤال حتى هذه اللحظة بلا جواب، لا توجد جهود مخلصة سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى العالمي لحل هذه الأزمة. لا توجد رؤية شاملة تتجاوز التفكير في مكافحة الإرهاب ونزع الأسلحة الكيماوية وإزالة التعارض، وهذا ما سمح للرئيس السوري بشار الأسد بالاستمرار في ارتكاب الفظائع والجرائم تحت أجنحة الحماية الروسية والإيرانية وفي حالة من عدم الاكتراث الغربي التام. 

إنترنت الأزمات

في هذه اللحظة، سوريا والعالم بأسره مدفونان في حطام أسوأ مأساة إنسانية في القرن الحادي والعشرين. لا المؤيدون المتحمسون للأسد ولا أولئك الغافلون عن الفظائع والجرائم الجماعية لديهم القدرة على توليد رؤية لمستقبل سوريا. 

ويفاقم من أزمة سوريا أولئك الذين يملكون القوة العسكرية ولكن تعوزهم الرؤية. أما الآخرون من ذوي القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية المحدودة، والذين يخلطون بين هلوساتهم الطائفية والرؤية، فلا ينجم عن أفعالهم سوى توسيع إطار الأزمة إلى ما بعد حدود سوريا. في هذه الأثناء شهدنا المنظمات المسلحة والكيانات الشبيهة بالدول، والتي لا تملك لا قدرة عسكرية ولا رؤية، توفر منطقة محايدة يستمر الإرهاب داخلها في الازدهار. 

جميع المشاكل والصراعات في عام 2018 لديها القدرة الكامنة على إصابة النظام السياسي العالمي بأسره بالعدوى. واليوم، لا توجد أزمة واحدة بإمكاننا تجاهلها. ومثلها في ذلك مثل "إنترنت الأشياء"، تعاني السياسة العالمية من "إنترنت الأزمات". ففي زمن الشبكات الذي فيه نحيا، فإن كل أزمة تبدو في البداية منعزلة قد تصبح سريعاً فيروساً ينتقل بسرعة من مكان إلى آخر.

من الممكن لتظلّم بائع متجول في تونس أن يتحول إلى مشكلة محلية، ثم إلى مشكلة قومية، ثم يصبح من بعد أزمة إقليمية شاملة. ولعل الموقع الأول لكثير من المشاكل لا يزيد عن كونه المحطة الأولى في مسار أزمة أعظم وأعمق لن تلبث أن تنطلق بالسرعة القصوى بعد حين. 

وفي القلب من حالة الفوضى العارمة التي نعيشها في زمننا هذا تقع سوريا، التي باتت أزمتها الشديدة تؤثر على العالم بأسره. ولاستيعاب مقدار تميزها عن سواها، يكفي المرء أن يتأمل في الطريقة التي تمكنت من خلالها هذه الأزمة منفردة من وضع الولايات المتحدة في مواجهة روسيا، ومن تصعيد التوترات القائمة بين الخليج وإيران، ومن تصدير الإرهاب والهجرة إلى أوروبا وتركيا في نفس الوقت. ولكن بالرغم من ذلك كله، وكما حصل في نكبة البورصات التي وقعت قبل عقد تقريباً، لقد تجنب اللاعبون الدوليون والإقليميون اتخاذ الخطوات الكفيلة بوقفها. 

التعلق بالسلطة


لا يوجد جانب رابح في الصراع الدائر داخل سوريا. قد يوهم البعض أنفسهم بتصور أن الأسد وداعميه يكسبون من خلال قتلهم ما يزيد عن نصف مليون إنسان وبأن الثوار يخسرون. قد يكونون مصيبين لو اعتبروا نجاة الأسد في السلطة بعد قتل مئات الآلاف من السوريين "مكسباً". 

ولكن عليهم أن يبينوا لنا كيف يمكن للأسد أن يستمر في حكم سوريا بعد الآن. لقد فر ملايين السوريين من البلاد أو نزحوا داخلها، ومن بقي منهم في مكانه لا يكاد يحصل على الحد الأدنى من الخدمات التي يفترض في الحكومة المركزية توفيرها. إن تعلق الأسد بالسلطة يعني فقط شيئين: إدامة الحرب وحكم سوريا بدون سوريين. 

يستحيل عملياً أن يستمر حكم الأسد. ولن تتمخض الأساليب المستخدمة، والمشابهة لتلك التي تم اللجوء إليها في الأزمة الشيشانية، إلا عن تداعيات واسعة النطاق، ولن ينجم عن تبني النمط اللبناني من توزيع السلطة سوى إبقاء الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام مزيد من الاقتتال بالوكالة. 

من المؤكد أن رغبة أنصار الأسد في إبقائه في السلطة تعود إلى فشلهم في تطوير رؤية لمنظومة جديدة. ولم تعد سوريا في هذه الحقبة من الفوضى العارمة سوى ورقة للمراهنة والمساومة. 

وبالنسبة لأولئك الذين يسعون لإبقاء الأسد في السلطة، باتت المهمة محاولة بائسة، وقد لا تقل بؤساً عن السعي للاستثمار في تجارة محفوفة بالمخاطر. وبالنسبة لنظام البعث، فإن كل قيراط من الأرض يستعيدون السيطرة عليه إنما يضيف عبئاً إلى ما يتكبدونه من تكاليف مالية ناهيك عن التكاليف الباهظة للحرب نفسها. 

كما يثقل العبء الاقتصادي كاهل تلك الأنظمة التي تقدم الدعم للأسد بينما تعاني نفسها من آثار العقوبات الدولية. وما يعيشونه من مأزق عميق لا يسمح لهم بالتخلص من التجارة المحفوفة بالخطر (أي الأسد) ولا بالإقدام على الاستثمار في تجارة جديدة واعدة. 

دور الاتحاد الأوروبي

وإذا ما جئنا إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يرى في الأزمة مشكلة إرهاب وهجرة، فإنه يعاني من شلل جيوسياسي. وفيما عدا الحرب المتقطعة ضد الإرهاب وصفقة اللاجئين التي أبرمت مع تركيا بناء على اقتراح من الأخيرة، فقد فشل الاتحاد الأوروبي في تقديم منظور فاعل لحل الأزمة السورية. 

ولئن كان الاتحاد الأوروبي يعتقد بأن هاتين المبادرتين ستسمحان له بالتعايش مع الأزمة، إلا أن عليه أن يدرك أنه إذا ما أراد أن يبقى ذا قيمة كلاعب سياسي دولي وفعال فيما بعد بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) فإنه يتوجب عليه أن يلعب دوراً بناء في هذه المنطقة ذات الماضي الاستعماري الدموي. 

لقد ضيع الاتحاد الأوروبي هذه الفرصة الثمينة بادئ ذي بدء في مصر، وها هو يكرر نفس الغلطة الآن في سوريا، حيث اختار الاستثمار في أزمة مرشحة للاستمرار لعقود قادمة وذلك في مقابل الحفاظ على المكاسب قصيرة المدى التي يجنيها من الإبقاء على وضع إقليمي قام على أنقاض الحرب العالمية الأولى. وهو بذلك يخفق في استيعاب أنه طالما استمر الوضع القائم كما هو فإن مشاكل "الهجرة والإرهاب" ستبقى وستستمر. 

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة فتحت صندوق العجائب من خلال غزوها للعراق، إلا أنها رفضت تحمل المسؤولية الناجمة عن ذلك سواء من الناحية الجيوسياسة أو الأخلاقية. وكل ما جرى هو أن المنظومة الإقليمية الملتوية التي أنشأها الأوروبيون في بلاد ما بين النهرين بعد الحرب العالمية الأولى أخضعت لعملية تحديث من قبل الولايات المتحدة في نمط يتمركز حول إسرائيل. 

إن الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن تطوير منظور مترابط وجاد بشأن الوضع الإقليمي القائم، والذي ضُحي بحياة الملايين في سبيل الإبقاء عليه. والأسوأ من ذلك أن العقل الجيوسياسي الأمريكي في عهد الرئيس دونالد ترامب مصاب بمستوى من الإسلاموفوبيا يتجاوز بمراحل الموقف الإسرائيلي المتطرف بهذا الشأن. 

والنتيجة هي أنه لا يوجد من بين الأطراف المتدخلة في الأزمة السورية من يملك تقديم حل لها، وكل ما سمعناه حتى الآن لا يتجاوز سيناريوهات متنوعة لا وجود للسوريين فيها أو خططاً لسوريا لا تنطق في واقع الأمر باسم سوريا. 

بدأت هذه الأزمة بجريمة قتل أطفال في درعا ما لبثت خلال سنوات قصيرة أن تحولت إلى شأن عالمي. ولذلك فإن الظن أنه بإمكان المجتمع الدولي السماح باستمرارها بعد وقوع أبشع مذبحة ترتكب في القرن الحادي والعشرين ما هو إلا نوع من الحماقة وقصر النظر الجيوسياسي.