قضايا وآراء

نذر مواجهة في الخليج.. والرابح إسرائيل

1300x600
عندما قرأ الأدميرال وليام كرو، رئيس هيئة الأركان المشتركة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، مذكرة وكالة الاستخبارات الأمريكية الفائقة السرية في نهاية أيلول/ سبتمبر 1987م حول عزم إيران شن هجوم بحري ضخم على منشآت النفط السعودية، أدرك أن الولايات المتحدة على شفا حرب في الشرق الأوسط.

فلربما تذكر الرجل مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر: "إن أزمة النفط التي تلوح في الأفق هي المعادل الأخلاقي للحرب".. التقط كرو سماعة الهاتف واتصل بالسفير السعودي في واشنطن آنذاك، الأمير بندر بن سلطان، الذي تجمعه به علاقة قوية نظرا لدور بندر في تأمين الدعم المالي لحروب وكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان، بدأ كرو الحديث: "لدينا معلومات استخباراتية عن تخطيط إيراني لهجوم وشيك على منشآتكم النفطية". أجاب بندر بغضب: "إذا أُجبرنا على ذلك فسوف نرد بقسوة وسنقصف منشآتهم النفطية". عندما وصلت مجموعة السفن والطائرات الأمريكية والسعودية إلى مياه الخليج؛ لم يجدوا الأسطول الإيراني المزعوم ووجدوا عددا قليلا جدا من سفن الصيد الشراعية القديمة.

تقول الرواية الأمريكية إن السفن الحربية الإيرانية اختفت في ظروف غامضة، على إثر ذلك اتهم القادة العسكريون في السعودية الأمريكيين باختلاق قصة الهجوم واعتبروها خدعة متقنة لجلب القوات العسكرية الأمريكية إلى داخل بلادهم.

خيارات مواجهة إيران

استدعت الذاكرة هذه الحادثة التي مر عليها ثلاثون عاما؛ على إثر التقارير التي تتحدث عن ضربة عسكرية أمريكية محتملة باتجاه إيران، في الوقت الذي صرح فيه وزير الدفاع الأمريكي بأن الخيارات المطروحة لمواجهة إيران لا تتضمن مزيدا من القوات الأمريكية في المنطقة. وإذا ما اعتمدنا هذه الرواية، فنحن بإزاء حرب بالوكالة، ولا نعرف على وجه اليقين حتى الآن من هي الأطراف الشرق أوسطية التي ستقبل القيام بهذا الدور نيابة عن الأمريكان، وما إذا كان اجتماع العقبة الذي كشف عنه في وقت مبكر من هذا العام، والذي جمع رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والعاهل الأردني الملك عبدالله بالإضافة للجنرال عبد الفتاح السيسي، هو جزء من هذا السيناريو المحتمل أم لا. ولو أضفنا إلى ذلك التحرش الأمريكي مؤخرا بإيران عبر بوابة سوريا، وقد تجلى هذا بوضوح حين أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البحرية الأمريكية بتوجيه ضربة صاروخية موجهة إلى قاعدة الشعيرات العسكرية بسوريا، باعتبار أن الطائرات التي نفذت الهجوم الكيماوي قد انطلقت منها، كان مفهوما أن تدافع إيران عن حليفها في سوريا وتصف القصف الأمريكي بأنه عدوان سافر على دولة ذات سيادة. لكن الأهم من ذلك كله هو أن الرأي العام الإيراني اعتبر أن هذه الضربة موجهة إلى إيران ومصالحها بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه رأآها عدد من صناع القرار في إيران تهديدا مباشرا للأمن القومي الإيراني. ولا بأس من الإشارة هنا إلى إجتماع القمة العربية الثامنة والعشرين أو قمة "البحر الميت" التي شهد حضورا غير عادي من زعماء العالم العربي، وقد بدا للبعض أنه أشبه بحفل افتتاح لحلف سني في مواجهة حلف شيعي، تماما كما أرادها أسياد العالم "الأمريكان" من دون مواربة. مثّل هذا كله الخميرة التي تضاف إلى عجين المنطقة ليختمر قبل أن يدخل إلى نار الفرن؛ لكي يصبح خبزا يوضع على مائدة الطعام.

زيارة ترامب للسعودية

مائدة الطعام ستكون معدة بحفاوة تليق باسياد العالم وذلك حين يحل الرئيس الأمريكي الجديد ضيفا على العاصمة السعودية الرياض وهي الزيارة التي أعلن عنها منذ ايام كأول زيارة خارجية له بصفته رئيسا لأمريكا، حيث من المقرر أن يلتقي ترامب عددا من قادة العالم العربي والإسلامي لمناقشة الرؤية الأمريكيةلمواجهة الإرهاب؟ هذه الزيارة التي وصفها البعض بالتاريخية سيكون لها ما بعدها بلا أدنى شك.

من وجهة نظر الجغرافيا السياسية، فإن التنبؤ بمستقبل أية منطقة جغرافية يتطلب معرفة بكل عنصر من عناصر جغرافيتها الطبيعية، ومعرفة دور تلك العناصر في بناء المركز السياسي والاقتصادي والعسكري لهذه المنطقة أو الدولة، كما أن أتباع مدرسة الجيوبولتيك يولون أهمية كبيرة للمواقع الجغرافية التي تمكن الدول من التحكم في الطرق والممرات الدولية، خاصة إذا كانت هذه الدولة على قدر من القوة يساعدها على منع استخدام هذه الطرق والممرات إذا دعتها الحاجة إلى ذلك. وإذا طبقنا هذه المعايير على دولة مثل إيران، وهي كما يبدو المستهدفة بالدرجة الأولى من مثل هذه ترتيبات، فسوف نكتشف أن التهديد الأمريكي بتوجيه ضربة عسكرية لإيران مسألة مشكوك في مدى جديتها، فضلا عن أنها ستمثل تهديدا حقيقيا لأمن دول الخليج إذا ما تم توريطها أمريكيا في مواجهة مع إيران؛ يكون وقودها الدم الخليجي، وربما العربي، ونفقاتها من الصناديق الخليجية المنهكة. وفي هذه الحالة سيكون ترامب قد ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فربما تندلع حرب واسعة في المنطقة طرفاها إيران وحلفاؤها من ناحية، ودول خليجية ومعها دول عربية من ناحية أخرى. وقد تأخذ هذه المواجهة شكلا طائفيا في ظل حالة من الشحن الطائفي المروع الذي تشهده المنطقة، والرابح الأكبر فيها سيكون الكيان الصهيوني. وعلى إثر ذلك فسوف تنتعش شركات تجارة السلاح الأمريكية، وكذلك شركات النفط الأمريكية العملاقة، فضلا عن إنهاك الدولة الإيرانية وإرباك مشروعها النووي أو على الأقل تعطيله، والأهم من ذلك كله هو الحفاظ على التفوق الإسرائيلي عسكريا على مجموع دول المنطقة باعتباره واحدا من أهم ثوابت السياسة الخارجية لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط. فما احتمالية ذلك؟ وما هي مآلات مواجهة من هذا القبيل إن وقعت؟

إيران ليست لقمة سائغة

للإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن إيران تتمتع بمقومات دولة إقليمية قوية ونافذة، فهي تحظى بموقع بحري خطير ومؤثر في منطقة تعد من أكثر المناطق القلقة جيوبولتيكيا في منطقة الشرق الأوسط، إذ تطل من الجنوب على خط تصدير النفط الرئيس وعلى عبور ناقلاته إلى كآفة دول العالم، وهي تطل على الخليج بساحل طوله 700 كم؛ يبدأ من ميناء بندر عباس عند مضيق هرمز حتى ميناء كواتر على الحدود الباكستانية الإيرانية، ومن الشمال تطل على بحر قزوين الغني هو الآخر بالنفط والغاز بساحل طوله 702 كم، وهي منطقة ذات أهمية قصوى للدول المستهلكة للطاقة. وإذا ما أضفنا إلى الموقع الجغرافي المتميز القدرات البشرية والاقتصادية، بل والعسكرية، فإن هذا يعني أن حربا من هذا النوع لن تكون نزهة، أيا كان الطرف المتورط فيها، ويصعب أن يخرج منها دون كلفة عالية في المال والأرواح.

ذكريات واشنطن مع طهران

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا لو أقدمت إيران على إغلاق مضيق هرمز والذي يمر من خلاله نحو 90 في المئة من إجمالي نفط الخليج الذي يغادر المنطقة في ناقلات ينبغي عليها أن تمر من هذا الممر الضيق، حيث لا توفر خطوط الأنابيب على اليابسة بدائل كافية للتصدير؟ بالتأكيد إجراء إغلاق المضيق هو بمثابة خيار شمشون وقد يستعدي العديد من دول العالم ضد إيران، لكن تاريخ الصراع الإيراني الأمريكي المباشر أو بالوكالة؛ اتخذت فيه خيارات من هذا القبيل في مراحل تاريخية سابقة، ولا توجد أي ضمانات لعدم تكرار ذلك. ففي عام 1984، إبان الحرب العراقية الإيرانية، دخلت حرب الناقلات منعطفا خطيرا عندما أعلنت إيران حصارا موسعا على العراق، فأخذت البحرية الإيرانية تصادر أي شحنة عسكرية متجهة إلى العراق، بما في ذلك المنقولة عن طريق بلد ثالث، مثلما حدث مع السعودية والكويت، وبدأت تطبيق قرارها هذا من خلال استهدافها للسفن التي تدخل مضيق هرمز. وإذا أضفنا إلى ذلك أن إيران أصبحت تمتلك مخزونا ضخما من الصواريخ والألغام حديثة الصنع التي تمكنها من السيطرة الفعلية على الملاحة، فإن هذا يدفعنا للقول بأن إيران ربما يكون لديها قدرة السيطرة من بعد دون الحاجة إلى إغلاق المضيق.

هناك أمر آخر، وهو المتعلق بمحصلة التجربة الأمريكية في صراعها مع الدولة الإيرانية "ما بعد الشاه"، والتي كانت الكلفة فيها أكبر من أن يتحملها كبرياء الدولة العظمى، وقد صعب عليها تمرير هكذا خسائر على الشعب الأمريكي الذي لطالما طالب الحكومات الأمريكية المتعاقبة برد الاعتبار للعملية التي طالت في يوم واحد 241 فرد من جنود مشاة البحرية الأمريكية في تشرين الأول/ أكتوبر 1983، والتي تتهم فيها وكالة الاستخبارات الأمريكية أطرافا لبنانية مدعومة من إيران بتنفيذ العملية، وهو اليوم الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. وبرأي بعض المراقبين، فإن الإدارة الأمريكية تجنبت توجيه اتهام مباشر لإيران لتجنب مواجهة معها، في ضوء التقدير الأمريكي المتعلق بتوازنات القوى للمنطقة في حينه، وليس لعدم القدرة بالتأكيد، فضلا عن اليوم المشؤوم في تاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية، حين تم الاستيلاء على السفارة الأمريكية في الأيام الأولى لثورة الخميني، واحتجاز الرهائن لمدة 444 يوما، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي الأسبق كاسبر واينبرجر بلفظ "يوم الإهانة الوطنية". فحين تعجز الذاكرة الأمريكية عن نسيان هذه الأحداث الدامية في تاريخها الصراعي مع إيران، فإن إقدامها على تكرار مثل هكذا مآس أمر مستبعد. من هنا يأتي الشك في نوايا الإدارة الأمريكية ليس تجاه إيران، وإنما تجاه منطقة الخليج، مما يتطلب إدراكا أعمق لطبيعة الدعاوى التي تطلقها الإدارة الأمريكية التي لم تُختبر مصداقيتها على الأرض حتى الآن.

في ضوء ما سبق فنحن أمام عدة سيناريوهات محتملة:

1- أن تكون هذه اللغة الأمريكية الخشنة تجاه إيران شكل من أشكال الحرب النفسية، والهدف منها تهذيب السلوك الإيراني في المنطقة، والنزول بسقف الطموحات الإيرانية، فيما يتعلق بتمددها في الإقليم، إلى الحدود المسموح بها أمريكيا.

2- أن يكون الهدف من هذه الحملة هو نوع من تطييب الخواطر لما يطلق عليه وفق المصطلح الأمريكي القديم "محور الاعتدال"، والذي يضم دول الخليج ومعها مصر والأردن، في محاولة لترميم هذا المحور الذي ضُمت إليه إسرائيل مؤخرا بشكل سافر؛ بعد أن كان من وراء ستار، ربما للقيام بدور ما في المستقبل.

3- أن يكون الهدف هو توجيه ضربة محدودة ومركزة لمنشآت نووية إيرانية تجبر إيران على قبول الاشتراطات الإسرائيلية الأمريكية؛ فيما يتعلق بمشروع إيران النووي.

4- أن نكون على أبواب حرب إقليمية واسعة يتخندق فيها محور ما يسمى بالاعتدال (دول الخليج ومصر والأردن وإسرائيل) من ناحية، وفي الخندق الآخر ما كان يسمى بمحور الممانعة، ويضم إيران وسوريا والعراق وحركات مقاومة في فلسطين ولبنان، وقد تأخذ هذه الحرب شكلا مذهبيا، وعندها سيتم تفجير المنطقة بأكلمها لا قدر الله.

وفي الختام، في حال ذهبت المنطقة إلى الأسوأ، وهو مواجهة إقليمية واسعة (وفق السيناريو الرابع)، فهل هذا من شأنه أن يعزز احتمالات اندلاع موجة ثورية جديدة من موجات الربيع العربي، ربما تكون أكثر عنفا وأكثر دموية، وقد ينتج عنها تغيير أنظمة الحكم في المنطقة كلها دون استثناء، وعندها سنكون بإزاء منطقة جديدة غير المنطقة التي عرفناها في السابق؟ هذا ما ستكشف عنه تطورات الأحداث في الأشهر القليلة القادمة وحتى نهاية 2017.