كتاب عربي 21

زيارة السيد الرئيس.. جوقة اللا شرف!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
زيارة السيد الرئيس..

في فيلم (زيارة السيد الرئيس – 1994) للمخرج منير راضي، تقع قرية الضهرية على طريق القطار الذي سيستقله الرئيسان المصري والأمريكي. وعلى إثر عملية نصب تعرض لها السيد (على الله)، رئيس مركز الضهرية، تبشره بتوقف القطار بالمركز لزيارة القرية وأهلها، تحولت الضهرية لورش حقيقي غايته الوحيدة إكرام الضيفين الكبيرين.

وحده الفلاح البسيط حسن، ثار على ترتيبات الزيارة، كما حددها أعضاء المجلس، فما كان من مأمور الشرطة إلا أن يبعثه للمركز معتقلا للتأديب، وهناك اختفى إلى الأبد. ومع اقتراب موعد الزيارة "التاريخية" علمت العائلة أن معيلها قُتل تحت التعذيب، وبذلك واجهت الزعيم (على الله) فشكل "لجنة تحقيق" في الموضوع انتهت إلى غياب دلائل على ادعاءاتها. 

على الله: (موجها كلامه لوالد حسن المختفي وزوجته) ثلاثة بالله العظيم يا غريب ميظهر حسن ويعمل حاجة لا حرحمو ولا حارحمك انت كمان. مفهوم؟ احنا خوات وكل حاجة.. بس الجد جد يا صاحبي ولعب العيال ده أنا معرفوش. فاهم؟

لم يظهر حسن لينغص على السيد (على الله) فرحته باستقبال السيد الرئيس إلا جسدا مسجى محمولا على أكتاف بعض من أهل قريته يشيعونه إلى مثواه الأخير، بعد أن تحول خبر الزيارة إلى مجرد "فنكوش".

عبد الفتاح السيسي لم يكن خائفا من أن "ينط" له أحد معارضيه في حفل استقبال ضيفه الكبير، الرئيس الاشتراكي للجمهورية الفرنسية فرانسوا هولاند، فكل فعاليات الزيارة تمت وراء الأسوار "المنيعة" على الاختراق. لكن صحفيا شابا من قناة تلفزيونية إخبارية فرنسية أصر على أن يستحضر أرواح كل الشهداء والمعتقلين بمصر المحروسة حين بادر بسؤال رئيسه: هل تعتقدون أن انتهاكات حقوق الإنسان تتماشى مع بناء علاقات تجارية مع مصر؟

ذاد الضيف الفرنسي في الدفاع عن "البلد القريب من فرنسا"، وانتهز المضيف عبد الفتاح السيسي الفرصة ليؤكد أن "يجب أن تنتبهوا وتسمعونا وتدركوا أننا نتكلم معكم بثقة وبصدق وبأمانة.. وبشرف... وبشرف". لم يعلم الصحفي الفرنسي الشاب أنه بحضرة طبيب الفلاسفة الذي طالب زعماء العالم الناس جميعهم أن يستمعوا إليه لأنه يعرف الحقيقة ويراها.

وكما لإيطاليا ضحيتها لدى النظام المصري فلفرنسا أيضا ضحيتها ممثلة في (إيريك لانغ)، الذي ألقت الشرطة القبض عليه قبل ثلاث سنوات واحتجزته في قسم شرطة قصر النيل قبل أن يعثر على جثته مقتولا، كما حدث بالضبط للفلاح البسيط حسن في فيلم (زيارة السيد الرئيس).

هولاند ناقش السيسي في "الحالات الفردية" تلك، لكنه  لم يكن ل "يخون واجبه اتجاه أمن أوربا وفرنسا"، ولا مانع لأجل ذلك من أن يرهب مضيفه الشعب المصري ويقمع الحريات وحقوق الإنسان حتى إشعار آخر.

ولأن الشرف، الذي أصر السيسي على التذكير به في حديثه مرتين، بالشرف يذكر، لم تهتم الصحافة الفرنسية من الزيارة إلا بإخفاق "جوقة الشرف المصرية" في عزف النشيد الوطني الفرنسي ما اعتبروه تشويها لمعزوفة "لامارسييز". لم يأبه منسبي "جوقة اللا شرف" الفرنسيين أن الرئيس فرانسوا هولاند كان أول من شوه رمزية "لامارسييز" حين وضع مبادئ حقوق الإنسان على الجانب مقابل عقود تجارية بالملايير تدفع من دماء المصريين. 

في فيلم (زيارة الرئيس) استقدم رئيس مركز الضهرية (على الله) فرقة حسب الله التي عزفت النشيدين المصري والأمريكي ببراعة وإتقان.

قبل أسابيع، استكثرت نفس "جوقة اللا شرف" تقليد فرانسوا هولاند، رئيس دولة "حقوق الإنسان"، ولي العهد السعودي بوسام "جوقة الشرف"، والذريعة انتهاكات نفس الحقوق بالمملكة العربية السعودية وعلى رأسها  تطبيق عقوبة الإعدام. تحججت الحكومة الفرنسية بأن الأمر لا يعدو أن يكون "تقليدا برتوكوليا" وأنه "لم يتسم بأي طابع احتفالي". الغريب أن منح وسام "جوقة الشرف" هذا ظل طي الكتمان وكأن الايليزيه يحاول درء "فضيحة" لا يريد لها الخروج إلى العلن، وهو ما استثمره الساسة الفرنسيون للطعن في الخطوة على اعتبار أنها تؤكد أن البلد "رهينة لعلاقتها التجارية مع السعودية".

ولم يكن هذا التوشيح الأول في إثارة الضجة بل سبقة توشيح فلاديمير بوتين في العام 2006 وعبد اللطيف الحموشي، مدير الاستخبارات المغربية، في العام 2015 قبل أحداث باريس التي سارعت الدولة الفرنسية حينها لطلب مساعدة الأجهزة المغربية على تجنيب فرنسا مجازر أخرى.

المعروف أن وسام "جوقة الشرف" هو أرفع وسام فرنسي أنشأه نابليون بونابرت  في العام 1802، والشخصيات الأجنبية الموشحة به لا تنشر أسماؤها إذا كانت تقيم خارج فرنسا، مخافة الإضرار بالسياسة الخارجية الفرنسية أو التأثير سلبا على حسن سيرها.

ولأن خبر توشيح ولي العهد السعودي انتشر، فقد صار مثار مزايدات جعلت الممثلة الفرنسية صوفي مارصو ترفض تسلم نفس الوسام وكتبت مقالا على صفحات جريدة لوموند عنوانه : المملكة العربية السعودية: وسام جوقة الشرف الوطني وقطع الرؤوس.

لم تهتم صوفي مارصو ومعها "جوقة اللا شرف" بدعوة النائبة عن حزب الجمهوريين كوسيسكو موريزيه، البرلمان لتطبيق "حقيقي" لعقوبة السجن المؤبد على المتورطين في عمليات "إرهابية"، وهو ما يعني الموت داخل السجون في تطبيق عملي لعقوبة الإعدام التي "يناهضونها" حين يتعلق الأمر بتطبيق "الحدود".

كما لم تهتم، وهي الفنانة الرقيقة المدافعة عن حقوق النساء، بكلام لورونس روسينيول، الوزيرة المنتدبة لشؤون المرأة، التي وصفت النساء المسلمات اللواتي اخترن الحجاب بأنهن "زنجيات أمريكيات" من منطلق أنهن "يؤيدن استعبادهن" قبل أن تهاجم ماركات الموضة العالمية التي نحت منحى تصميم ملابس بمعايير "إسلامية"، واعتبرت ذلك "تصرفا غير مسؤول" يروج "للقيود المفروضة على جسم المرأة". ما فات الوزيرة أن فرنسا كانت من الدول التي مارست تجارة الرقيق ولا تزال رافضة لفتح ملف التعويضات عن تجارة العبيد.

فرنسا المساواة لم ترفض فتح ملف التعويضات عن تجارة العبيد وحدها، بل ظلت لعقود تعتمد قانونا تمييزيا في صرف تعويضات الجنود الأجانب الذي حاربوا لتحريرها من النازية، منذ صدور قانون عنصري قدمه ووقَّعه الجنرال ديغول سنة 1959، إلى أن قرر المجلس الدستوري في يوليوز 2008، بعد خروج فيلم (السكان الأصليون - 2006) لمخرجه رشيد بوشارب للقاعات الفرنسية مؤرخا لملاحم جنود مستعمرات المغرب الكبير في تحرير فرنسا، مراجعة القانون. وفي 28 ماي 2010 أصدر المجلس الدستوري الفرنسي قرارا يقضي بوضع حد نهائي لذلك التمييز إلا أن الحكومات المتعاقبة تتلكأ ولا تزال في أجرأة تلك القرارات.

في العام 2008، تعرضت قبور الجنود المغاربة للتدنيس بمقبرة نوتردام دو لوريت، أكبر مقبرة عسكرية بفرنسا يرقد فيها أكثر من 40 ألف محارب. يومها، قام الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بزيارة المقبرة وأعلن أن الحكومة الفرنسية ستعمل على تنفيذ قرار صرف التعويضات لفائدة الجنود المغاربة في الجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية. غادر الرئيس المقبرة ونسي وعوده.
السكان الأصليون...

بعد هجوم تعرضت لهم كتيبتهم وأدى إلى مقتل جميع الجنود باستثنائهم، يقرر عبد القادر، أكبرهم رتبة، مواصلة الطريق في اتجاه الألزاس لتحريرها من الألمان بدل العودة من حيث أتوا انتظارا لدعم قوات الحلفاء. يرفض رفاقه الثلاثة الانصياع للأمر العسكري.

مسعود: ما الذي تسعى إليه؟ هل تعتقد أنك ستترقى وستحصل على رتبة أعلى؟

عبد القادر: أنتم لا تفهمون. سنكمل الطريق إلى الألزاس لأنه واجبنا ولو كان الثمن مضاعفا عشرة إلى مئة مرة مما دفعناه. وقتها سيعترفون باستحقاقنا...

كانوا هناك وأسماءهم كانت سعيد وياسر ومسعود وعبد القادر، ولم يتبق منهم حيا غير الأخير ليعود في نهاية الفيلم، عقودا بعد ذلك التاريخ، في زيارة لمقبرة نوتردام دو لوريت قبل العودة إلى الغرفة الحقيرة حيث يعيش بفرنسا الأنوار.

هؤلاء هم الشرف أما "جوقة اللا شرف" فحَرِيّة بمن جاء بعدهم..
0
التعليقات (0)