مدونات

أيُّ الذوات تخلصنا من القيود التقليدية في فكر عبد الجبار الرفاعي: ذات "الأنا" أم ذات "النحن"؟

عبد الجبار الرفاعي
عبد الجبار الرفاعي
تنطلق الدراسات بشتى مجالاتها من نقطة واحدة ووحيدة متمثلة في الواقع، بما يحويه هذا الواقع من جماد وحي، مقسما بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وعلى خطى البناءات المسبقة، نحاول وضع لمسات استفهامية على ما يطرحه فكر المفكر العراقي الذي ذاع صيته في الألفية الثالثة، ولست هنا في مجال للتحدي بقدر ما هو تفصيل وتتمة لما بقي في ذهني من استفهامات، تحتاج لإجابات دقيقة وعميقة، خاصة أن هذا الحقل الذي نخوض فيه – فلسفة الدين – له علاقة جد وطيدة بالدين الإسلامي، أو هو ضمن الأفكار التي تحاول التملص عن المناهج التقليدية في إعادة بناء الإنسان المتدين، وقد يلعب عامل الزمن جانب مهم، ذلك أن ما يحدث في البلاد العربية الإسلامية اليوم، يجعل من هذه الأفكار نموذجا إما أن نقتدي بها لنهتدي ولو جزئيا لوضع حلولا لبعض المشاكل التي تواجهنا، أو أن نضعها جانبا ضمن الأفكار التي فشلت مثل مثيلاتها، وهو ما يملأ مكتباتنا اليوم من هذه الأصناف.

وليكن في علمك عزيزي القارئ، أن الحديث في مجال فلسفة الدين في العلوم الاجتماعية أشبه إلى حد ما بالحديث عن الخيال في العلوم التجريبية، لهذا سيكون الحذر التام يرافقنا في وضع هذه الاستفهامات، ذلك أننا نواجه عملاقا نائما، مقارنة بالقزم الذي أمثله أنا ومن أمثالي.

وما تحمله هذه المقالة من أفكار هو ما جذبني من غموضها، وتعقدها، ولست ممن يعبر على الفكرة مرور الكرام، دون أن يترك أثرا وراءه، بحثا وتنقيبا، عسى أن نجد بداخلها ما يبعث على تغيير هذا الواقع الذي مله القاصي والداني، والخروج من قوقعة المآزق التي نخرج من إحداها فنغرق في الثانية، وهكذا دواليك..

وفي مجمل ما نحاول طرحه، يتمثل في الذات التي تسعى للتغيُّر والتغيير، فأيُّ ذات بإمكانها أن تخرجنا من التفكير التقليدي حسب ما يطرحه المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي؟ هل هي ذات الأنا أم ذات المجتمع؟ وفي كلا الحالين: أيُ الذوات أكثر إبداعا؟

يرسم لنا المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، صورة مستحدثة لعوامل التغيير في المجتمع العربي الإسلامي، مراعيا للظروف التي تشبثت بنا منذ حوالي عقد كامل، ومن بينها الثورات العربية التي غشتها أيدي التطرف من قبل جماعات لم يُعرف لها سبيل، متمسكة بشعارات تفوح منها رائحة العفن والنتن، ليتم ترويجها باسم الدين، وفي خضم هذه الأحداث لا يجد سبيلا للفرار من هذا الواقع، إلا بمواجهته وجها لوجه، عازما على إيجاد منفذ قد غيبه من قبله في قالب واحد، أشبه إلى حد ما بالقطيع، فإن قال أولهم "لا" سيقول آخرهم "لا"، وإن قال أولهم "نعم" سيقول آخرهم "نعم" وهكذا تردد ألسنتهم كلام غيرهم، دون أن يضعوا محركا خاص بهم، يدل على موقفهم الخاص باستقلالية تامة، تنمي عن وعي وإدراك لما يقول، فالعقل حسبه مغيب تماما، أو بالأحرى مصطنع من بوق الجماعة.
أي ذات نقصد؟

الذات هي " الأنا" كشخص واحد، والذات هي "النحن" كمجتمع، وهنا نتكلم عن إحداهما، وقبل أن ندخل في نقاش قد يطول وقد يقصر من استفهامات عديدة، نحاول وضع بين يديك مقتطف من نص المفكر عبد الجبار من كتابه المعنون بـ "الدين والظمأ الأنطولوجي"، حيث يقول: "لا نعني بـ "الذات" هنا، الذات المشتركة، أي: الذات القومية، أو الذات الحضارية، أو ذات الأمة، أو ذات الجماعة، وإنّما نريد بها، " الأنا الخاصة"، و"الذات الفردية"، و"الهوية الشخصية"، التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري، فمن دونها يفتقد كل إنسان ذاته، ويصير نسخة مكرّرة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفاً، وتجري "نمذجة" الكل في سياق صفات ذلك النموذج وسماته وخصائصه، وكأنّ الجميع يُسكبون في قوالب متماثلة، تُلغى فيها اختلافاتهم وتمايزاتهم، وتمحى البصمة الشخصية لكلّ منهم؛ هنا يتنازل الفرد عن ذاته، ولا يكون سوى بوقٍ يتردد فيه صدى أصوات الآخرين، فيما يختفي صوته الخاص"؛ أما "النحن" المقصودة هنا هي التي توفر لنا ساحة للتنافس والسباق مع من هم بنفس الصفة التي يحملونها، ونفس الخصائص التي تلتقي في ذات المتنافسين، فهي التي تفسح لنا مجالا نغوص فيه بخيالاتنا، والتعمق في أفكارنا، بحثا عن إبداع لذات المجتمع خدمة له، لهذا نجد أن ذات المجتمع، ذات مركبة من الذوات الخاصة مجتمعة، ولا يمكن للذات الخاصة أن تنتج دون أن تستقبل "الفعل" ليكون إنتاجها "رد الفعل" وهذه المعادلة هي التي يجب أن نحتسبها إغفالا، حتى ولو لم تتأثر الذات الخاصة، ولكن سيكون إنتاجها بطبيعة الحال لذات المجتمع، فيكوّن ذلك عوامل أخرى تجعل من الذاتين في مسار واحد متكاملة غير منفصلة، لهذا جاء الدين ليغير الروح التي كانت تطغى عليها الذات الخاصة، ليحولها إلى روح التكافل والتعاون والتراحم، إلى ذات المجتمع؛ ولو تعمقنا في تركيبة المجتمع، لوجدنا أن البنية التي تميزه ليست الفردية، وإنما تفاعل تلك الفرديات في نسق واحد منسجمة، ليتحقق لنا بينة جديدة تماما تشبه أو تتساوى مع الذات الخاصة، ولعل هذا المثال سيوضح لنا الكثير، فعندما نرى شابا لوحده نحتسبه ضمن الذات خاصة، و كذلك الفتاة فهي من ضمن الذات الخاصة، ولكن حين يتزوج الشاب من الفتاة، فبطبيعة الحال سينتج لنا ذاتا خاصة أخرى قد تكون فتاة، وقد يكون ولد، ولكن ماذا نحتسب العملية التي من خلالها تم إنتاج ذلك المولود؟ كذلك مع مجموعة من الذوات الخاصة فهي بتفاعلها تشكل لنا روحا جديدة، وفقا للبنية التفاعلية الحركية التي أنتجت لنا تلك الروح، فنتيجة الفعل ورد الفعل، هي تلك الروح الجديدة التي نسعى إلى تحقيقها.

فإن كان باعتقادك أن الإنسان يولد بمفرده، فمن أنجبه؟ وإن كان يحي بمفرده، فأين يحيى؟ وإن كان يتألم بمفرد، فمن آلمه؟ ويستفيق ضميره بمفرده، فمن أيقظه؟ ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده، فمن دفعه للإيمان أو الإلحاد؟ ويجتاحه بمفرده: القلق، اليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والعدمية، والجنون... إلخ، كل ذلك لا يأتي دون سبب، فمادام وراء كل جريمة مجرم، فلا بد أن يكون وراء كل ما ذكرناه فاعلا لذلك المفعول به، لكن أن نلغي كل الحبائل التي من خلالها شكلت لنا مجتمعا خاصا، بثقافة خاصة، فنحن نلغي تلك البنية الديناميكية التي تفاعلت فيها مجموعة من الذوات الخاصة، وهنا لا ألغي تماما الذات الخاصة، فبقدر علمي أحصيت أفكاري، وعددتها كما قلت ليس للتحدي، ولكن للبحث عن استفهامات، وفي سورة الرعد يقول الباري جل وعلا: " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" – الآية 11- ونجد في هذه الآية الكريمة ما يغنينا عن كسر حاجز الفردية، وهي تتجلى في الجمع " أنفسهم"، ولا يحدث التغيير دون أن تكون هناك بنية اجتماعية ديناميكية من خلالها يحدث التغيير في بنية الذات الخاصة.

ما الذي يعيق هذه الذات الخاصة عن الإبداع؟

حسب ما يسوقه لنا المفكر عبد الجبار الرفاعي أن الذات الخاصة هي التي تبدع، وهي التي تتغير فيتغير بتغيرها المجتمع، هذا التغير لا يحدث إن لم تكن هناك حرية، وأيُّ حرية؟ هي التي يذكرها بقوله: " الحرية لا تمنح، بل تمتلك، وامتلاكها يتطلب: شجاعة الإرادة، جسارة العقل، ومغامرة تحطيم الأغلال؛ الإنسان الحي اليقظ يكدح مادام حيا للتحرر من سجون: جسده، هويته، تاريخه، ثقافته، رؤيته للعالم، أوثانه"، وليس هناك سبيل حسبه إن لم يتم كسر الحواجز التي تقيد الذات الخاصة حتى في بواطنها، في حين أن الحرية هي العامل الذي يؤهلنا لو منحناها لهذه الذات المسكينة، فقوله: " أن الحرية أشق من العبودية؛ ذلك أنها: إرادة، وحضور، واستقلال، وشجاعة، ومسؤولية، وخيار إيماني، وموقف حيال الوجود؛ أن تكون حراًّ فهو يعني أنك تواجه العالم كله، وتتحمل كل شيء وحدك، العبودية: هشاشة، وغياب، واستقالة، وخضوع، وانقياد، وتفرج، وتبعية، ولا موقف، ولا أبالية، ولا مسؤولية،؛ أن تكون عبدا يعني أنك لست مسؤولا عن أي شيء، حتى عن نفسك" وهو ما يذكرني بقول الدكتور مصطفى محمود في كتابه لغز الموت: "حريتي تعذبني.. لأني حينما أختار.. أتقيد باختياري.. وتتحول حريتي إلى عبودية ومسؤولية.. وهي مسؤولية لا ينفع فيها إعفاء لأنها مسؤولية أمام نفسي.. أما الاختيار الذي اخترته أنا.. وليس أمامي سبيل غير أن اختار.. لا بد أن أختار في كل لحظة.. فإذا أضربت عن الاختيار.. كان إضرابي نوعا من الاختيار.. عليّ أن أدفع ثمنا فوراً..".

ورغم كل هذا المجال من الحرية الذي نقدمه للذات الخاصة إلا أن الحرية بحد ذاتها تبقى مجالا للتقيد، ذلك أن هذه الحرية التي منحتها للذات مقيدة بالقطيعة مع الإرث التاريخي – حسب ما قاله عبد الجبار - الذي من دونه لا يساوي الإنسان شيء، فالتاريخ سواء كان المعرفي – الإبستيمولوجي – أو الحوادث، هو العملية التي تستمر من خلالها الذات الخاصة أن تروي ظمأها مثلما ترويه من حاجاتها الدينية.

الإنسان لا بد أن يرضخ، ولا بد للعبودية أن تكون، "لا بد أن أختار في كل لحظة... فإذا أضربت عن الاختيار.. كان إضرابي نوعا من الاختيار"، هذه هي العبودية، وإن كانت غير مباشرة، وبالتالي نحن عبيد لاخياراتنا، وعبيد لأهوائنا، وعبيد لأمنياتنا وأحلامنا، وعبيد لمواقفنا وقراراتنا، وعبيد لأفكارنا، وعبيد لمعتقداتنا، ولعل هذه العبودية هي التي أفضت إلى تقييد الذات الخاصة، وأعاقت عملها الإبداعي؛ ولكن يذكرنا هذا المفكر بأن هناك درجات تتفاوت بين أنواع العبودية في قوله: "أخطرُ أنماط العبودية عبودية العقل، إنها هي التي تُفضي إلى عبودية الروح والعواطف والضمير، الجبان عقله مشلول، لا طاقة لديه للتفكير، ذلك أن التفكير شجاعة، وأحيانا تكون ضريبته موجعة، وفي بلادنا من يفكر بحرية لا بد أن يكون مستعدا للتضحية بمقامه وماله وانتمائه لجماعته، بل ربما حياته".

هذه الخطورة تكمن في العقل الجمعي، الذي يتغيب فيه العقل الفردي، فيصبح الإبداع الفردي مغيبا، هذا هو عقل القطيع الذي يفر منه الإبداع، لأن الرضوخ لهذه الجماعة يعني بطبيعة الحال غياب الفرد، وهنا تُسلم النفس أسلحتها، ويركع العقل على ركبتيه، معلنا الاستسلام، إما خوفا أو تكاسلا عن التفكير، وهنا تزول الطاقة المحررة، المشبعة بالشجاعة والنشاط، فيكون حسبه ضريبة غالية تعود الذات الخاصة، ولعل الكاتب أراد أن يضرب لنا مثالا بآينشتين بطريقة غير مباشرة، وتلك القصة التي ألهمت الكثير من الشخصيات، في تمردها عما هو سائد آنذاك، دون أن يذكرنا بسمات العبقرية والتمرد، فالعقل الفردي، أو الذات الخاصة حسب عبد الجبار هي تلك الذات المتمردة عن تقاليد المجتمع وأعرافه، تفكر باستقلالية، وتبحث في بواطنها عن كل ما من شأنه أن يرفع الروح، لتسمو من طبقة إلى طبقة، بعيدا عن الشخصية المزيفة التي ينتجها المجتمع، ولكن السؤال المطروح، هل كل المجتمعات تنتج ذوات خاصة مزيفة؟ أم أنه المقصود هنا مجتمعنا لوحده؟ وما السبب وراء ذلك؟ وكيف تم إنتاج تلك الشخصيات؟ علما بأن في عالمنا الآن وفي زماننا اليوم نجد أن التكنولوجيا قد حررت الكثير مما كان ممتنعا في السعودية مثلا، فبعدما كان الفكر الوهابي وحده متوفرا على رفوف المكتبات، نجد أن الشبكة العنكبوتية قد سهلت لمن يريد الإطلاع عن المعتقدات الأخرى، دون قيد، إلا أننا لم نلحظ أيّ تمرد عن تلك المعتقدات والأفكار التي ينتجها العقل السعودي، فما الذي يميز هذا عن ذاك؟

وحسب اعتقادي أن كل ما من شأنه أن يتعرض للمقدس فهو من الذي ينفر منه العامة والخاصة على السواء وليس العامة فقط، ذلك أن المقدس هو ما يجعل ممن حولنا ينفرون منا لو تعرضنا له، أما أن تتعرض الأفكار لشخص ما فهي على كل حال تلقى قبولا من قبل فئة ما، ورفضا من فئة أخرى، وما العامة إلا أتباع، فالقياس إذًا لا يجب أن يكون على العامة، بقد ما يكون على الخاصة، والذات الاجتماعية هي كذلك، تقاس بمن يبدع داخلها، وليس بمن قد لازمه السكون، إلا نادرا، فهو حالة شاذة، والشاذ لا يقاس عليه، فإن كان في قولك: "أنّ الناسُ بطبيعتهم ينفرون من التفكير، ومن كل ما يوقظ العقل من سباته، لذلك يفتشون على الدوام عمن يفكر عنهم بالنيابة، فيعودون في كل شيء يسير أو خطير في حياتهم إلى من ينوب عن عقلهم، من لا يدرب عقله على التفكير لن يتعلم الاستقلال في التفكير؛ لا نتعلم التفكير إلا بالإدمان على التفكير" هو صحيح، ولكن ليس في كل الحالات، لأنه قد ينطبق على الحالات الشاذة فقط، ولتجاوز هذه الحالة – أي الشاذة – وتحويلها إلى حالة دائمة، فيجب أن تكون هناك نخبة تتوسط بين العامة والمبدعين، تشرح ما أراد المبدعين توفيره، وإنتاجه، ليسهل الأمر من كلا الناحيتين، بفضل تلك النخبة، وأنا شخصيا لو لم أتعرض لكل كتاب فكري أكثر من مرتين، فلن أستوعب ما يحمله ذلك الكتاب بين دفتيه.

وختاما، أقول بأن الواقع لن يتغير ما لم يتم تغيير كلا الذاتين في تركيبة واحدة وفي مسار واحد منسجم، تقدم فيه الذات الخاصة منتجاتها للذات المجتمعية، وتقدم فيه الذات المجتمعية ما تحتاجه الذات الخاصة، ولنا في هذا المقام مقال آخر تابعا لما بدأناه من الإبحار في فكر المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، في موضوع جديد نتناول فيه العقل الجمعي والعقل الفردي.
0
التعليقات (0)