مقالات مختارة

انشغال وليس اشتغالا

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
في حيثيات حكم فصل 32 قاضيا مصريا من وظائفهم أنهم أعلنوا موقفا من الأحداث السياسية الحاصلة في البلاد (عام 2013)، وهو ما اعتبر "من صميم السياسة المحظور على القضاة الاشتغال بها أو الاقتراب منها أو حتى الإدلاء برأي فيها". لذلك أدانت الحيثيات هذا الموقف الذي وصفته بأنه «خروج فادح وفاضح عن نطاق العمل القضائي وشذوذ جسيم عن التقاليد القضائية الراسخة التي تلزم القاضي بحدود لا يتجاوزها». 

وفي تبيان تلك الحدود أوضحت الحيثيات أن القاضي «ليس شخصية عامة. ومن ثم فعليه أن يلتزم محرابه عاكفا على عمله القضائي، ينأى بنفسه عن السياسة بما لها وما عليها، ولا يجهر برأي في الشؤون العامة للبلاد، أو يشارك في مجلس يناقشها علنا أو في إلقاء بيان بشأنها".

الحيثيات التي دعت القاضي ليس فقط لأن ينأى بنفسه عن السياسة، وإنما حرمت عليه أن يجهر برأي في الشؤون العامة للبلاد صدرت عن المجلس الأعلى لتأديب القضاة، الذي يرأسه المستشار أحمد جمال الدين عبد اللطيف رئيس محكمة النقض. وحين نشرتها بعض الصحف التي صدرت يوم الاثنين الماضي 4/4، فإن جريدة "الشروق" كشفت عن مفارقة محرجة. ذلك أنها في مقابل الصفحة السابعة التي تضمنت عرضا للحيثيات نشرت على الصفحة السابعة تقريرا عن جلسة افتتاح البرنامج المصري الإفريقي لمكافحة الإرهاب والجريمة الدولية. 

وفوجئنا بأن كلمة الافتتاح ألقاها المستشار أحمد جمال الدين عبد اللطيف رئيس محكمة النقض رئيس مجلس تأديب القضاة. وفي كلمته شبه الإرهاب الذي تشهده مصر بالسرطان الذي انتشر ودعا إلى ضرورة التعاون لمكافحته. كما تحدث عن علاقات مصر الإفريقية وعبر عن أسفه لأن المغرب العربي لم يمثل في اللقاء.. الخ. 

الشاهد أن كلمة المستشار أحمد جمال الدين نقضت ما ورد في حيثيات حكم المجلس الأعلى لتأديب القضاة الذي يرأسه. ذلك أن الرجل تكلم في السياسة وفي الشأن العام وخرج من المحراب الذي دعا القضاة إلى الاعتكاف فيه. ومن ثم أباح لنفسه ما حرمه على غيره، بل عاقبهم على فعله بالفصل من وظائفهم.

لا تفسير لتلك المفارقة سوى أن حظر الكلام في السياسة نسبى وليس مطلقا. فما كان منه سابحا مع التيار ومائلا مع الريح فهو مباح ومرغوب، وكل ما عدا ذلك يتراوح بين الكراهة والتحريم والتجريم.

الطريف أن رئيس النقض الذي عبر في حيثيات الحكم عن تشدده في منع القضاة من الكلام في السياسة أو الشأن العام أقدم على مفارقة أخرى. ذلك أنه سعى إلى إعادة وزير العدالة الانتقالية السابق المستشار إبراهيم هنيدي، إلى منصة القضاء، رغم أنه كان في قلب السياسة وممارساتها. لكنه ضن بذلك على وزير العدل الأسبق المستشار أحمد سليمان الذي لم يعد إلى عمله لأنه كان جزءا من سياسة أخرى لا يحبها.

ذكرت الحيثيات أيضا أن سلوك القضاة حين أعلنوا موقفا من الأحداث الجارية يعد خروجا فادحا وفاضحا عن نطاق العمل القضائي وشذوذا جسيما عن التقاليد القضائية الراسخة. وهو ما أثار انتباهي وشككني في معلوماتي، حيث ظننت أن شيئا تغير في التقاليد القضائية التي أعرفها في هذا الصدد، بعد انقطاعي عن دراسة القانون طوال نصف القرن الأخير. 

وحين تحريت الأمر وجدت أن الشك ليس في محله، وأن التقاليد القضائية الراسخة لا تؤيد الحجة التي أوردتها الحيثيات، إذ صحيح أن قانون السلطة القضائية حظر على القضاة الاشتغال بالسياسة كما حظر على المحاكم إبداء الآراء السياسية. 

إلا أن التقاليد القضائية فرقت بين الاشتغال الفعلي بالعمل السياسي كالانضمام إلى الأحزاب السياسية وبين الانشغال بها وإبداء الرأي فيها ضمن انشغال القاضي بالشأن العام. والحظر يشمل الأولى دون الثانية. ولمجلس الدولة فتوى مستقرة في هذا الصدد أحدثت تلك التفرقة أصدرها في بداية الخمسينيات (الفتوى رقم 351 للسنة الرابعة قضائية). وهو الرأي الذي جرى اعتماده في المناقشات التي جرت حول تفسير المقصود بحظر الاشتغال بالسياسة. سواء تلك التي جرت في مجلس الشيوخ المصري أو بين فقهاء القانون المعتبرين أو فيما قررته الاتفاقات الدولية.

هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول بأن إبداء الرأي في الشأن السياسي أو في غيره من الشؤون العامة للبلاد لا يشمله الحظر كما ذكرت الحيثيات. ليس فقط لأن الأصل في الأشياء الإباحة ولكن أيضا لأن القاضي مواطن يفترض أنه يحمل بطاقة انتخابية تعطيه الحق في أن يشارك برأيه في الانتخابات والاستفتاءات التي هي من الشأن العام. ولأن الأمر كذلك فأخشى أن يكون فصل القضاة، وأغلبهم من دعاة استقلال القضاء وممن قاوموا وفضحوا تزوير الانتخابات، قد انبنى على تفسير خاطئ لم يفرق بين الاهتمام بالشأن الوطني العام وبين الانخراط في العمل الحزبي.

وحين تدرك أن ذلك التأويل لحدود الحظر أدى إلى فصل نحو 67 قاضيا ومستشارا، على دفعات، الأمر الذي أدى إلى التنكيل بهم سواء بحرمانهم من حقوقهم المادية أو منعهم حتى من الاشتغال بالمحاماة فضلا عن منعهم من السفر، فإن الحكم في هذه الحالة لا يدعو فقط إلى تشريدهم وتجويعهم. وإنما يعد إهانة للقضاة والقضاء.

عن صحيفة الشرق القطرية
0
التعليقات (0)