كتاب عربي 21

المقامة التهليسية عن المفاهيم الإبليسية

جعفر عباس
1300x600
1300x600
بقلم شخص طويل اللسانِ، يدعى وجيع الزمانِ..

هو شهر واحد في السنة، نتخذ له ترتيبات معينة، لا نهتم بمثلها في سائر الشهور، ونخترع فيه تسالي لم تحدث عبر الدهور، وإن السهر فيه ليحلو، والمزاج فيه يعلو، وكثيرا ما نجتمع على فعاليات كبيرة، وأحوال ونشاطات خطيرة.

وأيام رمضان في ظني أمتع أيام السنة، وأرقى ما يروِّح عن النفوس المؤمنة، أليس هو شهر البر والتقوى؟ أليس الإيمان فيه يربو ويقوى، ألا ترى الناس فيه مستأنسين؟ فرحانين، سهرانين، مبسوطين؟ ألا تسمع إلى المغنين يهزجون، والمطربين ينشدون؟ فالوعي الجمعي لهذه الأمة العظيمة، أنها تستقبله بالأنشطة الفخيمة، وإحياء العادات التراثية القديمة، مثل الجمعة اليتيمة، وتضيف عليه من البهارات والمسليات العصرية، والحاجات المضحكات الفنية، لنجد فيها المرح والإيناس، ونسيان كل أشكال الغم والقهر والوسواس.

ويضيق صدري، ويزيد غمي وقهري، من بعض الآدميين المتزمتين، والأشخاص الأقفال المنغلقين، الذين لا يرونه غير صوم وصلاة، وقيام وطاعة لله، وكأن الدين جاء ليضيّق على الناس، ويبلّد في نفوسهم الإحساس، ويحرمهم من الوناسة والراحة، وإطلاق النفس بصراحة، ويجعلهم ينسون أشكال الفرح، ويضيقون باللعب والمرح، وينسون أن ديننا حلو خالص، وليس منه تكشير الوجه وتغضّن الفرائص!!

بينما الفضائيات الرائعة قد تمكيجت وتكحلت، وطوّلت في إرسالها واسترسلت، ونوعت المواد والبرامج، من كل عتيق عندها وطازج، فجهزت بدائع المسلسلات، وروائع الفوازير والمسابقات، واستأجرت آنق المذيعات، وأعرى الممثلات والراقصات، وأجرَت معهم المقابلات، وخبّأت لنا المفاجآت، وأبدعت في الكاميرا الخفية، والمواد المضحكة الكوميدية، وبدأت تعرض سيرة حياة الفنانة سوسو المناضلة، ورحلة عمرها الشاملة، فكان لها النصر في النهاية، حتى بلغت في إتقان هز الوسط الغاية.

وأما الفنادق، فأبدعت وطورت، واستحدثت فأحسنت وما قصرت، إذ أقامت الخيام الرمضانية، والأسواق الشعبية التقليدية، وأتت بفتيات من كل صنف، إحداهن من نسائنا بألف، يمشين متدلعات متقصعات، مائلات مميلات مثيرات، وعلى الجنبين يجلس الذين يسلون صيامهم، ويقضّون في "اللهو البريء" وقتهم، فيصفرون للنساء ويبصبصون، ويتمحكون فيهن ويغازلون، ويسحبون من الشيشة ما يشاؤون، ليجعلونا نعيش في أجواء شعبية، وممارسات طريفة ترفيهية.

وإذا أردت أن ترى سخاء، وغنى ووفرة ورخاء، فانزل إلى موائد الرحمن، فهي منثورة في كل مكان، من حر مال المعلم حكشة تاجر الصنف، والفنانة الراقصة كوكي البلف، والمعلم حنفي سنجة، والريس أوشا ملك السردين والرنجة، كلهم فيها يخرج زكاة ماله، ويعمي العيون عن عياله، ويغسلون أموالهم من الحرام، ويسلون الناس في الصيام.

وأما الخيام الرمضانية، المهتمة بالثقافة الشعبية، فتجد فيها المصاطب والبسطات والمسارح، والأفندية مع لابسي الجلاليب والملافح، كما أنك تجد فيها الشيشة والجوزة، والحواة والقرَّادين والأراجوزة، وتسمع فيها الحكايات الشعبية، كأدهم وأبي زيد وياسين وبهية، ومع حنين الأرغول والربابة، تصل إلى أذنيك حكايات الهلالية والزغابة، فهي ليالي سمر ولا كالليالي، وساعات بهيجاتٌ ممرضيات حوالِي.

وينطلق الآباء لتكديس الحوائج، وشراء كل شيء رائج وغير رائج، فالشهر فرصة للطعام والشراب، والتسلي في الشوارع بأسياخ الكباب، ناهيك عما تحضّر الأمهات العزيزات، وصفوف الطباخات والخادمات، من شهي الأطعمة والمأكولات، حتى إن الوزن ليزيد، والشهية تزداد والمعدة تهضم الحديد.

فترانا ساعة الإفطار، في ما يشبه الانتحار، نبلع ونزلمط، ونرمي ونزغط، ونلهط ما شئنا من القطائف والكنافة، ونشفط ما أحببنا من الحلو والمالح وما فيه حرافة، وننوع في البارد والحار، والمشطشط كأنه النار، ولا ننسى دور الفاكهة، وما إليها من المشهيات المشابهة، ونتلهف على السحور في أوانه، والحلو في إبّانه، كل ذلك ونحن في استرخاء، أمام ما يبث لنا من الفضاء.

ويكفينا في الشهر المبارك الإل بي سي، وأختها الإم بي سي، وحسبنا مزيكا والإيه آر تي، ونايل وروتانا، والتت اللي مرقّصانا، فهي من القنوات الأخرى أخف، إذ يجعلنا الشهر الكريم عن قنوات البورنو نعف؛ أليس هو شهر كرم وحياء، وتطهير للنفس وصفاء؟!

فلماذا تسلبون رمضان جانبه المسلي؟ من شاء منكم أن يصلي فليصلّ، ومن رفض هذا فليولّ! فأمتع ما في رمضان ملامحه اللطيفة، وفعالياته الخفيفة الظريفة، أما هؤلاء الذين يريدون فيه الصلاة، فليوفقهم الإله، وليتعبدوا ما شاؤوا، وليخرجوا من الحياة كما جاؤوا، لم يستمتعوا مثلنا بالدنيا، ولم يعرفوا لها طعمًا ولا معنى، ولم يطربوا لأجواء السمر، ولم يعرفوا حلاوة الكيف والسهر.

ولست أدري لماذا يتنافسون إلى المساجد؟ وتراهم فيها خاشعين بين راكع وساجد؟ ألسنا أكثر منهم فهما لسماحة الدين، وعندنا مثلهم من اليقين؟ فلا تقولوا إن صيامنا سيبوظ، فقد مللنا كلامكم المحفوظ، فقلوبنا بيضاء، ونفوسنا شفافة كالماء، ولا بد أننا مرحومون؛ فالعبرة بالنية، فدعونا من نصائحكم "البلدية".

ومبارك عليكم الشهر
التعليقات (0)