كتاب عربي 21

تونس الديمقراطية ونوبل للسلام

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
فازت تونس ممثلة في المنظمات النقابية والحقوقية الأربعة الراعية للحوار الوطني بجائزة نوبل للسلام. ليست جائزة نوبل بالضرورة مرجعا لشخصيات مسالمة (شمعون بيريز ومناحيم بيغين للذكر لا الحصر) لكنها في هذه الحالة تعكس حالة واقعية. فتونس استطاعت فعلا الحفاظ على عملية الانتقال الديمقراطي في إطار سلمي، ولم تنزلق إلى مستنقعات الدم التي وقع في فخها آخرون.

الرباعي الراعي للحوار رمز لجهود اطراف سياسية ومدنية قام كل منها من زاويته وفي إطار صلاحياته من رد نزعات الانقلاب على الديمقراطية بالقوة وعبر احتلال مقرات السيادة وتسبيق المصلحة الوطنية والتوافقات السلمية لحماية المؤسسات المنتخبة. ومن ثمة حل الصراع عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع.

وهنا الرباعي الراعي للحوار عنوان لشبكة معقدة من الأطراف المساهمة عمليا وواقعيا في توافق على الحد الأدنى السلمي للانتقال الديمقراطي. وعليه تونس ذاتها فازت بالجائزة رغم كل اختلافاتها. 

يعتبر البعض أنه إذا رفضنا المشاركة في جولة الحوار الوطني التي أدارها الرباعي في سبتمبر 2013 فلا يحق لنا تهنئة الرباعي الراعي للحوار الآن. هنا نحن بصدد تلاعب وتحايل على الحقائق:

أولا، حزب المؤتمر لم يكن ضد منطق الحوار الوطني في ذاته ولهذا شارك في جلسات الحوار الوطني لصيف 2013 (واستضافت رئاسة الجمهورية جلساتها في قصر الضيافة) التي ركزت على توافقات مشروع الدستور وفقط بناء على هذه الجلسات تم بناء التوافقات اللاحقة على الدستور والتي أنتجت دستور جانفي 2014. 

ثانيا، أن حزب المؤتمر الذي لم يشارك في الحوار الذي انطلق في سبتمبر 2013 (بسبب منهجيته المتمثلة في وضع خارطة طريق قبل بدء المفاوضات) قامت كتلته في المجلس التأسيسي بالتصويت إيجابا على كل مخرجات الحوار الوطني سواء المتعلقة بالدستور أو المتعلقة بالهيئة المستقلة للانتخابات أو المتعلقة بالحكومة في سياق أن ذلك كان محصلة توافق عام على إنهاء المرحلة الانتقالية على أساس مشترك أدنى، أي مأسسة التوافقات عبر السلطة المنتخبة الأصلية أي المجلس الوطني التأسيسي (الذي دعا لحله البعض) وحسم الصراع السياسي عبر صناديق الاقتراع. وللتذكير فإن أطرافا أساسية شاركت في الحوار الوطني إما صوتت بالرفض للحكومة أو على بعض توافقات الدستور. 

تحفظنا على منهجية الحوار الوطني لسبتمبر 2013 لم يجعلنا نقع في التنطع وعدم فرز ما هو رئيسي عما هو ثانوي، وأنه ما دامت مخرجات الحوار الوطني انتهت إلى حماية الانتقال الديمقراطي والمؤسسات المنتخبة في أكتوبر 2011 وتبادل السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع وليس عبر الانقلاب؛ فإننا لا يمكن إلا أن ندعم هذا المسار بعكس آخرين قبلوا منهجية الحوار لكن رفضوا مخرجاته. 

ينسى الكثيرون السياق الذي كانت تسير فيه الأمور في صيف وخريف 2013 حينما كانت موجة إقليمية ومحلية تدعو علنا لحل السلطة المنتخبة الأصلية ولإنهاء سلطة المؤسسات المنتخبة عبر الدعوة العلنية للاستيلاء على مقرات السيادة والدعوة الواضحة لاستئصال أطراف سياسية وأيديولوجية محددة.

كانت تلك شعارات وتصريحات معلنة وبلا حساب وبكل الهستيريا الممكنة. وهنا تضافرت جهود عديدة لكبح هذا المارد الانقلابي سواء عبر من كانوا في السلطة التنفيذية الذين وقفوا بحزم أمام أي محاولة للاستيلاء بقوة الشارع على سلطة المؤسسات المنتخبة أو اعتبار الشارع ليس عامل ضغط فحسب؛ بل أداة في منظومة تنفيذية للانقلاب على الانتقال الديمقراطي في سياق تحريض أيديولوجي متعصب. 

وأيضا عبر أطراف أخرى في المجتمع المدني وعلى رأسها الرباعي الراعي للحوار وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل التي قامت بدور أساسي في كبح الجموح الانقلابي وأيضا في ترشيد موقف من كانوا في السلطة والدفع نحو توافقات سلمية للصراع السياسي عبر السلطة المنتخبة الأصلية أي المجلس الوطني التأسيسي. 

نوبل للسلام لهذه الجهود المجتمعة رسالة فيها حد أدنى من المصداقية لأنه مهما كانت الاختلافات بيننا في الإطار التونسي فإن هناك أرضية مشتركة لاتزال قائمة منذ انتخابات 2011 وهو الانصياع للإرادة الشعبية والمرجعية العليا للدستور. هناك حد أدنى ديمقراطي لا يمكن نكرانه. 

تلك الرسالة التي يجب أن ننضبط إليها جمعا في إطار الوحدة الوطنية وفي انسجام مع هذا الدعم الدولي. يبقى أن ذلك لا يمكن أن يحجب كل المشاكل والسقطات المتراكمة بما في ذلك خرق الدستور في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مستوى مثل ما يشهد به القضاة من عودة الممارسة المنهجية للتعذيب وضرب الحق في الشفافية ومقاومة الفساد عبر قانون تبييض الفساد المسمى "مصالحة وطنية" ومختلف القوانين التي ترسخ حقوق اللوبيات والمال السياسي على حساب بقية فئات المجتمع. فنوبل للسلام تتعلق بحل الصراعات سلميا ولا تتعلق بتحصين صراعاتنا ودعم مناعتنا الاجتماعية من الانزلاق مستقبلا في أي صراعات تحيد عن الممارسة السلمية. 

وهنا الحقيقة لا يقدم حزب السبسي ضمانات جدية على ذلك خاصة بعد محاولة اغتيال هذا الأسبوع في وضح النهار لأحد النواب البارزين الموالين للسبسي ورئيس أحد الجمعيات الكروية العريقة الممثلة لجهة كاملة في البلاد "الساحل". وتم ذلك في سياق التبادل العلني للشتائم والاتهامات بالإرهاب والفساد بين قيادات وبارونات الحزب في مشهد يذكر بعالم تداخل السياسة بالمافيا في دول مثل كولمبيا. 

والآن قياديو حزب الحكم يزايدون على بعضهم البعض حول "مقاومة الفساد" وهم أنفسهم من يريد تمرير مشروع "تبييض الفساد". ومثلما أعلن أمين عام الحزب الحاكم الذي يريد إسقاط الحكومة "الإرهاب ليس من له لحية فحسب" وهو "والفساد وجهان لعملة واحدة". وهكذا يبدو حزب السبسي مجموعة من المتوترين المنغمسين حصرا في الحسابات الشخصية، يخربون إذا عارضوا ويخربون إذا حكموا. 

ويخطئ من يعتقد أن انتهاء الصراع بين أحد عشائر الحزب سينهي التآكل المرضي. فكلما برز من بينهم زعيم إلا ونظر إليه الآخرون أنه الهدف الموالي. المشكل أنهم مثل نيرون لن تتحرك فيهم شعرة إذا حرق جنونهم بلدا بأكمله.

وهنا لا يمكن أن تشكل جائزة نوبل للسلام وحدها ولا حتى المجتمع المدني ضمانة لاستمرار مسار الانتقال الديمقراطي على ما هو عليه. 
التعليقات (0)