مدونات

أرهق قلبي إنسان!

علاء القضاة
علاء القضاة

بعدَ يومٍ مُرهقٍ من الدّوام في المشفى، توجّهتُ إلى منطقة العبدليّ لمراجعة طبيب الأسنان، فقد كُنت أعاني من بعض الآلام فيها، أنهيت وانطلقت إلى مسجد المُستشفى الإسلاميّ لأصلي المغرب، دخلتُ المسجد مع رفع الأذان مُباشرةً، مدخل المسجد عبارةٌ عن بابٍ أسود كبير، مفتوح على مصراعَيه، يقودك إلى درجٍ رُخاميّ يصعد للأعلى، صعدت الدرج حتّى وصلتُ إلى الباب الداخليّ، على الجانب الأيمن كانت تقفُ خزانةٌ خشبية كبيرة للأحذية، وعلى الباب ملصقاتٌ دعوية وبوسترات ولوحة خضراء إلى الدّاخل تحمل المزيد من الملصقات الدعوية والأدعية والأذكار، كان الباب بنيّ اللون مفتوحاً قليلاً، يتسلل منه بعض الضّوء على استحياء، وعندما دخلت وجدت المسجد مضاءً من الداخل بشكلٍ جيّد، مفروشاً بأناقة، أحسستُ برعشةٍ تسري في جَسدي، إذ كان الأذان في منتصفه تقريباً، مشيتُ بضع خطوات إلى الأمام، وتعلّق ناظرايَ بالمحراب الذي يسجُد في مكانه بخُشوع..

جوّلت نظري فإذا برجُلٍ واقف يدعو الله سُبحانَه بتضرّع، رافعاً يديه للأعلى، وآخرُ يُصلّي صلاة التحّية.
جلستُ في مكانٍ مُناسبٍ ورحت أنتظر الإقامَة.

توَافد النّاس شيئاً فشيئاً وامتلأ المَكان بأشخاص من مختلف الطّبقات الاجتماعيّة، وما هي إلا لحظاتٌ حتّى أقيمت الصلاة وكبّر الإمام، كان صاحب صوتٍ شجيٍّ حزين، مما أضفى على قُدسيّة المكان وشاعريّته إحساساً أعمق!

سلّم الإمامُ معلناً انتهاء الصلاة، عمّ السّكونُ للحظاتٍ حتّى قطعه ذلك الصّوتُ المُتهدّج بعباراتٍ كليمةٍ محزونة: "يا إخواني في الله، أنا أخوكم من غزَّة وهذه أوراق الثبوتيّة خاصّتي، ابتلاني الله بعدّة أمراض ووالله لا أملك ثمنَ الدّواء، فإمّا أن تتكرّموا بشراء الدّواء لي أو تعينوا أخاكم مما فتح الله عليكم من رزقٍ وهو يشتريه بنفسه"، كان رجلاً أشيب الشّعر ويبدو أنّه قد جاوز السبعين، كانت كلماتُه تتعثّر ويداه ترتعشانْ، يلبسُ نظاراتٍ دائريّة العدسات، تُطلّ من خلفها عينان واسعتانِ حزينتان، وتحملُ قسمات وجههِ من الهمّ ما لا يعلمهُ إلا الله!

أتمّ كلامَهُ ثمّ ذهب إلى مؤخرة المسجد، أمسكَ كُرسيّاً أبيض اللون، وضعهُ عند الباب وجلسَ.
استيقظت العاطفةُ الأثيرة في قلوب المصلّين، فبدؤوا يُعطونه أوراقاً نقديّة خضراء وحمراء، كان المشهدُ شاعريّاً ومُؤثراً، وكأن جميع المُسلمين يرددون معاً: "إنّما المُؤمِنونَ إخْوَة".

وقفَ عنده شابَّان يستفسران عن الأوضاع في غزَّة، كنتُ أشهد الموقفَ من مكانٍ قريب، تحدّث قليلاً عن الحصار والفقر والحَرب، عن المصائب والهُموم، صمتَ قليلاً ثمّ انفرجت شفَتاهُ عن كلمةٍ ممزوجةٍ بالدُّموع، قالها وهو ينشِج: "لقد تخلّى الجميعُ عنّا، كلّ العرب، كُل المسلمين".. لقَد كانت جُروحُه غائرة، فدموع الرّجالِ عصيّةٌ.. عصيّةٌ جدّاً!

صَمَت قليلاً ليُفسحَ لي المَجال لأستمع إلى نبضاتِ قلبي تتسارَع، لأنتَبه إلى الدّمعة التي احتبَست في مُقلتي، تماسَكتُ واستندتُ إلى الجدار، وهدأت العاصفةُ التي كانت بدأت تتنَامى في أعماقِ سُكوني..

كُل هذا ما كان إلا مُقدّمةً لما حدث في النهاية، استشعاري لجلالِ المكانِ وعظمَته، خُشوعُ المحراب السّاجد في مكانه، صوتُ الإمام الشجيّ، كلماتُ الرّجُل المُسنّ، عاطفةُ المُصلّين، حديثُه الأخير عن غزّة وبُكاؤه.. لم تكن إلا عبارةً عن مُقدمات لما رأيتهُ أخيراً..

بينما أنا جالسٌ في مكاني في زاوية المسجد، وبينما كنتُ أفكر فيما قاله الرجل المُسن عن خذلان العرب والحكومات والجيوش التي نتغنّى بها صباحَ مساء، في تلك اللحظات، كان رجلٌ مُوغِلٌ في العُمر يتقدّم باتّجاه المُسن الغزّاويّ، مُمسكاً بكلتا يديه ورقةً من فئة خمسة دنانير رافعاً إيّاها إلى مُستوى صدره تقريباً، رجُلٌ ذو لحيَةٍ كثّة بيضاءَ مشوبةٌ ببعض السّواد، حنطيُّ اللون، كان وجهُه نحيلاً باهتاً، لهُ عينان بُنيّتان غائرَتان، حولَهُما هالاتٌ من التّعب والإرهاق.. أو رُبّما من الجوع والفقر!

وعلى جسدِه الهَزيلِ التفَّ معطفٌ كامدٌ أخضَر، مليءٌ بالرُّقع في كثيرٍ من أنحائِه، حتَّى أنّ حجمَه كانَ أكبر بكثير من حجم الرّجل إلى درجة أنّه يتّسعُ لواحدٍ آخرَ معه، وبنطالهُ القديم الباهت، كان يبدو واسعاً أيضاً!

استمرَّ في التّقدُّم حتّى تقلّصَت المسافةُ بينَه وبين الرّجل المُسنّ إلى مترينِ تقريباً، وحينها قال بنبرةٍ مُتأنّية: "حجّي، أنا فقير زيي زيّك، بدي أعطِيك نُصّ ليرة وتعطيني البَاقي"..

لم أنظُر في محفظة الرّجل، ولكنني أكادُ أجزمُ أنّه لم يَكُن يملك غير خمسة الدنانير تلك، نظرةٌ واحدةٌ إليه تكفي لمعرفة ذلك!

ويكأنّه حسَبَ حسابات يومه ذاكَ قبل أن يتقدّم، ديناران لعشاء العائلة، وديناران لغداءِ الغد، نصفُ دينارٍ للباص الذي سيقلّني إلى أقرب محطّة إلى البيت، ونصفُ دينارٍ لهذا المريض المسكين!

وقَف أمام الرّجل المُسنّ، صمتت ألسنتهُما للحظة، وكانَ حديثٌ للعُيونِ طويل!

لقد نَهشتْ سنيُّ الحياة أحلام ذلك الرّجل الفقير، وكالتْ لهُ من الضَّرباتِ ما لا تنوءُ بحملهِ الجبال، وعصرت عُروقه وقوَّته فأحالتها آلاماً وعذابات!

رجلٌ عجوزٌ بالكاد يملك قوتَ يومه، ثُم إذا بهِ يُشيحُ بوجههِ عن الحياة ويسخرُ منها في لحظاتٍ، ليحملَ همّ إنسانٍ آخرَ يُشاركُه سياطَ القهرِ والإجْهاد!

لقد حطَّم هذا الرَّجلُ كل نظريّات ماركس ونيتشه وسارتر المادّيَّة، وصفعَ بها وجهَ الحائِط وأراني النظريّة الأخلاقيّة القُرآنيّة جليّة ً واضِحة! عرفتُ حينَها المعنى الحقيقيّ للحديث الشّريف: "رُبّ درهمِ سبقَ ألفَ درهم".

لقد خذلنا الحكام والحكومات والجيوش ومؤسسات الدول العربية ومجالس الأمة والجامعة العربية، اليونسكو والاونروا واليونيسف، هيئة الأمم المُتحدة.. كأنها كُلها كانت تراباً وحُطاماً، تبعثر بنفخةٍ واحدةٍ من نُبل ذلك الفقير!

لقد كان أستاذاً في الإنسانيّة، إنساناً بكُل ما تحملهُ الكلمة من مَعنى!

أيُّها الطبيب، أيها المهندس، المعلم، التاجر، المُربي، المسؤول، الإداري.. يا كُل إنسانِ على وجهِ هذه المعمورة.. كُن بلسماً لجراحات الآخرين ما استطعت.. كُن إنساناً!
 
"حجّي، أنا فقير زيي زيّك، بدي أعطِيك نُصّ ليرة وتعطيني البَاقي"..
التعليقات (1)
انسان
السبت، 20-12-2014 08:39 م
الله يقدرنا على عمل الخير .. ماشاء الله .. كتابة مميزة