كتاب عربي 21

رؤية في الإصلاح في تونس: اقتصاد إنتاجي، الأمن الغذائي والطاقي (2-5)

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
كنت تحدثت في جزء أول عن محور إصلاح إدارة الدولة من زاوية أن الدولة ستبقى بمعزل عن الميل إلى "اليسار" أو "اليمين" أداة تحكم الاتجاه العام للاقتصاد والمجتمع. أنتقل الآن إلى محور ثان سأتعرض إليه في جزأين لأهميته البالغة والمتعلق بتطوير قطاعات استراتيجية بوصفها قاطرة للاقتصاد ككل. يجب التأكيد هنا على نقطة أساسية وهو توجيه الاقتصاد التونسي منذ أواخر فترة حكم الرئيس الراحل بورقيبة وخاصة خلال مرحلة حكم المخلوع بن علي إلى أن يكون اقتصادا ريعيا وليس انتاجيا. وكانت إدارة الدولة تعتمد على مقاربة أمنية سطحية تعتبر أن "الأمن" بمعنى القمع والاستبداد شرط رئيسي للاستقرار وأن ذلك النوع من "الاستقرار" يمكن أن يضمن نموا اقتصاديا. التجربة العملية لهذا النوع من الحكم تؤكد أنه منهار لامحالة، وذلك رغم نسب "النمو" (growth) المرتفعة والتي لم تكن تعني عمليا تنمية (development) حقيقية. بهذا المعنى فإن التأسيس لدولة ديمقراطية سيكون وهما إذا لم يعتمد على رؤية مختلفة تماما تعتبر أن الأمن المستديم الحقيقي يتمثل في إرساء دعائم قوية لاقتصاد قادر على ضمان تنمية وليس مجرد نمو رقمي وحسابي. 

الوضع المعقد والصعب الذي نعيشه الآن بعد الثورة هو ناتج عن بنية قائمة للاقتصاد الراهن منبثقة عن عشريات سابقة واصلاحها سيستغرق وقتا. وهو الأمر الذي أقر به تقرير جديد لـ "البنك الدولي" يرجع ضعف نمو الاقتصاد التونسي إلى "تأثير الإرث الاقتصادي الذي خنق الإمكانيات الهائلة للبلاد". وأشار التقرير كذلك إلى أن "السياسة الاقتصادية لم تتغير بعد الثورة، إذ تتحكم شركات قليلة مرتبطة بأشخاص مقربة من نظام بن علي في حوالي 50 % من الاقتصاد الوطني يعود لها 21 % من إجمالي الأرباح ولا تتجاوز نسبة التشغيل بها 1 % من اليد العاملة". طبعا لا يجب هنا أن ننسى أن البنك الدولي ساهم عمليا في التأسيس لوهم "النمو" تحت الاستبداد وذلك في تقارير رسمية أصدرها أسابيع قليلة قبل اندلاع الثورة دعم فيها التوجه القائم في تونس. 

يمكن أن يعتبر البعض خاصة في "الإدارة العميقة" أن ضعف الاقتصاد القائم على القيمة المضافة والمتسبب في وضع العجز في الميزانية في تونس قدر لا مفر منه. لكننا نعتبر في حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" إنه رغم محدودية إمكانيات تونس هناك مساحة للمناورة ولتحسين البعد الإنتاجي في اقتصادنا بما يسمح بالتقليص بشكل كبير من ضعفه الراهن وذلك باستعادة سياسات وجدت خاصة في الستينيات والتي ركزت على مجموعة من القطاعات الاستراتيجية والتي تعتبر الشركات العمومية فيها عناصر أساسية في البنية العام للاقتصاد الوطني حتى الآن. ونحدد هنا خمسة قطاعات قائمة الذات لكنها تحتاج سياسات جديدة تماما. الأمن الغذائي والطاقة والنقل-الللوجيستيك وتكنولوجيا المعلومات والسياحة. سأتحدث في هذا الجزء الثاني على الأمن الغذائي والطاقة. 

نعتبر أن عملية الإصلاح ونجاح الانتقال الديمقراطي يمران حتما عبر سياسة فلاحية تحقق الأمن الغذائي. ولتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي نقترح رؤية جديدة للقطاع الفلاحي كركيزة محورية للمنظومة التنموية. في هذا الإطار تهدف سياستنا الفلاحية إلى تطوير أداء القطاع الفلاحي لجعله يساهم في الاقتصاد التونسي بنسبة نمو12 % وذلك ضمن استراتيجية شاملة للإصلاح تهدف إلى: (1) تحسين دخل ومستوى المعيشة للفلاحين (2) رفع مستوى الأمن الغذائي عبر تامين وفرة المواد الأساسية (3) ضمان الجودة الغذائية والسلامة الصحية للمنتوجات (4) دعم التصدير للمنتوجات ذات القدرة التنافسية (5) ودعم خدمة الفلاحة للمحيط وإحكام استغلال الموارد الطبيعية والمحافظة على المنظومات البيئة (6) دعم الادماج الاجتماعي ومقاومة الفقر والتهميش وتحقيق التوازن والتكامل بين الجهات (7) 

سأركز هنا على مقترح عملي له علاقة مباشرة بعجز الميزانية المتفاقم ونزيف العملة الصعبة. الالتزام ببرنامج ضخم لإحياء زراعة الحبوب. إذ أننا ننتج حاليا أقل مما يقارب بالكاد نصف استهلاكنا. إن التكلفة على الأسواق العالميّة أصبحت باهضة بالنسبة للمستهلك التونسي. فضلا على أنّ قطاع الحبوب بإمكانه توفير ما يكفي من مواطن شغل خاصّة للفئة الأكثر تضرّرا من البطالة، وهي فئة شباب المناطق الريفية الداخليّة. وسيكون أيضا لهذه الاستراتيجية انعكاسات على تنشيط التشغيل في قطاعات تربية الماشية وإنتاج اللحوم والحليب والصناعات الغذائيّة.

القطاع الثاني الذي يستوجب تركيزا خاصا ومثله مثل الفلاحة هو مشكل لكنه يمكن أن يكون الطريق للحل في الان نفسه. إذ علامات غياب النجاعة في ظلّ الدكتاتوريّة أنّ فاتورة الدعم المباشر للطاقة، وهي نتيجة تراكم القرارت السابقة منذ عقود، بلغت 3734 مليون دينار في ميزانيّة الدولة لسنة 2013 (تقريبا 14% من جملة ميزانيّة الدولة)، ممّا يمثّل أكثر من 75000 مواطن شغل قارّة كان بالإمكان إحداثها. ومن الخطأ اعتبار سبب هذا الحجم من الدعم تراجع الإنتاج إثر "تعطيل" المجلس الوطني التأسيسي لعدد من العقود على خلفية تفعيل الدستور الجديد (الفصل 13 بالتحديد، كما صرّح البعض، ولكن السبب هو ضعف منظومة الرقابة ومتابعة الشركات المنتجة ونقص الشفافيّة ووجود عقود غير متكافئة، منذ عهد الاستبداد، بين الشركات الخاصّة العملاقة والدولة التونسية. ذلك ينطبق مثلا على عقد استغلال حقل "مِسكار" للغاز الطبيعي من طرف الشركة العالميّة "بريتيش غاز"، الموجود في عمق بحر صفاقس، على بعد حوالي 100 كم من الساحل. الغاز المستخرج من هذا الحقل يستعمل لتوليد أكثر من نصف الاستهلاك التونسي للكهرباء، ممّا يمثّل قيمة قريبة من 1500 مليون دينار سنويا. هناك إشكاليّتان بالنسبة لهذا الحقل. الإشكاليّة الأولى هي أنّ الدولة التونسيّة أسندت حقل مِسكار بنسبة 100% للشركة المستغلّة "بريتيش غاز" وذلك في تناقض مع الفصل 13 من الدستور الجديد وأيضا مجلة المحروقات والذين يؤكد على ملكية الشعب التونسي وأولوية السيادة التونسية على الموارد الطبيعية ومشاركة الدولة التونسية في كل مشروع إنتاجي. أمّا الإشكاليّة الثانية فهي سعر الغاز. تونس (عن طريق الشركة التونسية للكهرباء والغاز) هي المشتري الوحيد لغاز مِسكار (ويُستعمل لإنتاج الكهرباء) وتمّ الاتفاق في المعاهدة بين تونس والشركة المستغلّة على تعديل السعر على الأسعار الأوروبيّة للنفط الخام، بحساب المكافأة الحراريّة. ومن سوء الحظّ، سعر النفط قد ارتفع بعد ذلك كثيرا في السوق الأوروبيّة في حين أنّ الأسعار العالميّة للغاز لم تبلغ نفس درجة الارتفاع، خاصّة في الولايات المتحدة.

إن مواجهة هذا الوضع غير الشفاف وغير المتوازن يستوجب مجموعة من الإجراءات الضرورية نظرا لانعكاساته السلبية على مجموع الاقتصاد الوطني وليس قطاع الطاقة فحسب. أولا حزمة قوانين جديدة تفرض قواعد صارمة جدا تمنع "تضارب المصالح" بين الموظفين في الشركات العمومية للمحروقات والشركات الاجنبية، وكذلك قانون للشفافيّة يفرض مستوى من الشفافيّة مماثل لما هو موجود في الدول المتقدّمة، على غرار القانون الأمريكي Dodd-Frank Act of 2010 خاصّة الفصل 1504 الذي يفرض على شركات النفط والغاز نشر جميع معاملاتها مع الدول الأجنبيّة. إضافة إلى ذلك ولمزيد ضمان الشفافية ان توجد هيئة "المجلس الأعلى للطاقة" يتم اختيار أعضاءه من قبل مجلس الشعب ويعمل مع الإدارة على ضمان الشفافية في المعطيات الخاصة بالقطاع. ثم إضافة إلى الطاقة التقليدية يجب توجيه الجهود بشكل مكثف واستراتيجي نحو الطاقات الجديدة خاصة منها الشمسية تركز على الدمج الصناعي بهدف خلق سوق شغل واستثمار وتوفير المجال لتطور القطاع على اسس وطنية تسمح بقدرة أكبر على توجيهه نحو الاستثمار المحلي وليس الطريقة الريعية القائمة على كراء مساحات من الاراضي لشركات اجنبية. كذلك يجب إحداث أداة تمويلية متخصصة في هذا المجال "بنك الطاقة". 
التعليقات (0)